
محبة الرسول الأعظم والتبرك بآثاره صلى الله تعالى عليه وسلم
يدرك الواقفون على أسرار المحبة أن نفس المحب إذا امتلأت بالحبيب أصبحت لا شغل لها إلا بذكره والفكرة فيه ، ولا توجه لها إلا إلى آثاره وأسبابه ، وما يفضي إلى خياله بالاستحضار ، وإلى لاعج المحبة بالتذكار .
ولذلك كثر اجلا المحبين للأطلال ، وحنينهم إلى الرياح الهابة من أرض الحبيب ، والبروق اللامعة من صوبه ، والركبان الآتين بحديثه والمكاتيب التي لمستها يده ، والشخص الذي رآه ، والجدار الذي ضمه ، والقمر الذي طلع عليه ، والسحاب الذي أظله ، والاسم الواقع على اسمه ، والذات الحاكية لرسمه ، بل والعذول لأنه يذكره ، والواشي لأنه يرفع لواء الحب وينشره ، فكيف بثوب لامس قوامه ، أو تربة لثمت أقدامه ، أو قضيب وقعت عليه بنانه ، أو كلمة جرى بها لسانه .
وقد ورد في القرآن الكريم يحرضنا على هذه المحبة ويقيم الحجة على لزومها واستحقاقه صلى الله تعالى عليه وسلم لها ، ويقرنها بمحبة الله عز وجل ، فقال تعالى : ( قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ ) . وقد كان من محبة الله تعالى لهذا السيد الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم واصطفائه إياه للدرجات العلية أن جعل للمسلمين على هذه المحبة فضلاً ومنة وكرماً من المثوبة والفضيلة ما يشهد له عن أنس بن مالك رضي الله عنه : أن رجلاً أتى النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فقال : ( متى الساعة يا رسول الله ؟ ، قال : ما أعددت لها ؟ قال : ما أعددت لها من كثير صلاة ولا صوم ولا صدقة ولكني أحب الله ورسوله ، فقال صلى الله تعالى عليه وسلم : أنت مع من أحببت ) .
وقد كان هداة الأمة وقدوتها الطيبة من رجال الصدر الأول رضي الله عنهم يتعلقون من هذه المحبة الشريفة بالأسباب المتينة ، ويشتدون فيها إلى الغايات السامية ، الممتنعة عن غير النفوس المشرقة باليقين ، المتبوئة من مقامات الثبات والتصديق درجاتها العلية ، يظهر ذلك فيما عقدوا عليه قلوبهم وما نطقت به ألسنتهم وما ترجمت عنه أفعالهم .
أما ضمائرهم فقد كان مظهر المحبة فيها الشوق البالغ إليه ، والأنس المطرب بذكره وتمنوا أن تكون أنفسهم وأهليهم وأموالهم فداءه ، وذهولهم عن أحب الأشياء إليهم في سبيل نصرته ومحبته .
وأما ألسنتهم فقد كان مظهر المحبة فيها الإكثار من ذكره صلى الله تعالى عليه وسلم ، وفي المثل المشهور من أحب شيئاً أكثر من ذكره ، وتفديته بالآباء والأمهات والتعلق بالصلاة عليه صلى الله تعالى عليه وسلم حتى صارت ريحانة نفوسهم وقرة عينهم .
وأما أفعالهم فقد كانت مظاهر المحبة فيها مختلفة الاعتبارات متفاوتة المقامات حتى انتهت بهم إلى أن قدموا نفوسهم فداء لذات النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ، ففي حديث يوم أحد أن أبا طلحة الأنصاري رضي الله عنه ثبت أمام النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ينضح عنه بالنبال ويقول : وجهي لوجهك ونحري دون نحرك . وإن أبا دجانة الأنصاري رضي الله عنه تترس على رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فكانت النبال تقع على ظهره وهو منحن حتى تشكك بالنبال .
وكان من أفعالهم في هذا الباب ما عرف من شدة تمسكهم بالآثار النبوية وحرصهم على معرفتها للتبرك بها ومحافظتهم عليها وتنافسهم فيها .
لذلك التزم كثير من أهل المحبة النبوية ممن رزق حسن الأدب فلم ير نفسه أهلاً للوصول إلى المقام النبوي مباشرة التعلق بوصف النعل النبوية وتمثيلها ومدحها بفنون المديح نظماً ونثراً حتى أن كثيراً من أفاضل أهل الآثار كتبوا في ذلك تصانيف خاصة كالحافظ الكلاعي ، وابن الحاج المريني ، والحافظ ابن عساكر ، والسراج البلقيني وأبي العباس المقرئ وهو الذي أربى على جميعهم في كتابه المسمى ( فتح المتعال في وصف النعال ) .
ونعـلٌ خضعـنا هيبـةٌ لِـبهائِهـا
وإنـا متى نخضـع لها أبداً نعلُـوا
فَضَعُهـا على أعلـى المَفَارِقِ إنَهَا
حقيقتهـا تـاجٌ وَصُورَتُهـا نَعـلُ
بِأَخمصِ خَيـرِ الخلقِ حازت مـَزيَّةً
على التَاجِ حتى باهتِ المَفرقَ الرجلُ
طريقُ الهُدى عنها استنارت لِمبصرِ
وإن بِحـار الجود من فيضها تحـلو
سَلَونَا ولكـن عـن سِواها وإنمـا
نَهِيمُ بِمعناهـا الغَرِيـبِ وَما نَسلـوُا
فمـا شَاقَنَا مُذارَقَنَا رسـمُ عِزِهَـا
حَمِيـمٌ ولا مـالٌ كريـمٌ و لا نَسـلُ
شَفَـاءٌ لِـذِي سُقـمٍ رجاءٌ لِبَائِسٍ
أمـانٌ لِذي خَوفٍ كذا يُحسَبُ الفَضلُ
وتبين بهذا أن جميع آثاره صلى الله تعالى عليه وسلم وملابساته هي ملتمس بركة ورقية شوق فلا شك أن لشعره الشريف من بين جميع ذلك امتيازاً وفضلاً لا يشركه فيه غيره ، ومرجع هذا الفضل الثابت للشعر ، هو إنه جزء من ذاته الشريفة وناهيك بها مزية لا يبلغها السيف ولا البردة ولا النعلان ولا اللواء ولا غيرها من كل ما هو من ملابسات الذات الكريمة وليس منها . وإنه خاصة من خواص الذات الشريفة .
ولطالما ولع المحبون بخصلة من شعر الحبيب صلى الله تعالى عليه وسلم أصبح استصحابها هجيراهم وحديث الاستشفاء بها من سحر المحبة من حديث البحر .
ومجموع هذه المزايا والخصائص هو الذي اقتضى ما كان للصحابة رضي الله عنهم من شديد الرغبة في الشعر الشريف والتبرك به . وهذه الرغبة الكريمة منهم رضي الله عنهم هي التي كانت سبب بهذه الشعرات التي هي أمان الخائف ومقصد للمضطر . ولذلك أصبح للشعرات النبوية ذيوع زائد في التبرك ومقام مفرد في التعلق بسبب هذه الخصوصية فأصبح الصحابة رضي الله عنهم يحفظون الشعرات الشريفة أتم حفظ ، وأصبح تابعوهم يتنافسون في التحصيل على الشعرات أو الوقوف عليها والنظر إليها تنافساً عظيماً .
وفي صحيح البخاري عن محمد بن سيرين قال : قلت لعبيدة عندنا من شعر النبي صلى الله تعالى عليه وسلم أصبناه من قِبل أنس بن مالك رضي الله عنه أو من قِبل أهل أنس ، فقال : لأن تكون عندي شعرة منه أحب إليَّ من الدنيا وما فيها ، لذلك كان الذين سعدوا بهذه الشعرات من أصحاب حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم يضعونها في أعز مكان فتحفظ في قلانسهم التي على رؤوسهم ، ويحتفظون بها إلى الموت لأنها أمان وضمان بشهادة النبي صلى الله تعالى عليه وسلم لها تلويحاً وتصريحاً . فقد روى الحافظ ابن حجر في كتاب الإصابة عن سعيد بن المسيب أن أبا أيوب الأنصاري أخذ من لحية رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم شيئاً فقال له : ( لا يصيبك السوء يا أبا أيوب ) . وقال الإمام السيوطي في الخصائص الكبرى : أخرج سعيد ابن منصور وابن سعد وأبو يعلي والحاكم والبيهقي وأبو نعيم عن عبد الحميد بن جعفر عن أبيه : أن سيف الإسلام خالد بن الوليد رضي الله عنه فقد قلنسوة له يوم اليرموك فطلبها حتى وجدها . وقال اعتمر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فحلق رأسه فابتدر الناس جوانبهم شعره صلى الله تعالى عليه وسلم فسبقتهم إلى ناصيته فجعلتها في هذه القلنسوة ، فلم أشهد قتالاً وهي معي إلا رزقت النصر . وهو ما ذكره عياض في كتاب الشفاء عن البيهقي : أن شعرات من شعره صلى الله تعالى عليه وسلم كانت في قلنسوة خالد بن الوليد فلم يشهد بها قتالاً إلا رزق النصر .
وقد ثبت عن كثير ممن حمل الشعرات الشريفة أنها دفنت معهم بوصية منهم . روى الحافظ ابن حجر في كتاب الإصابة من طريق ابن السكن عن صفوان بن هبيرة عن أبيه قال : قال لي ثابت البناني ، قال لي انس بن مالك رضي الله عنه هذه شعرة من شعرات النبي صلى الله تعالى عليه وسلم فضعها تحت لساني قال : فوضعها تحت لسانه فدفن وهي تحت لسانه . وعن الحافظ الكتاني في مصنفه كتاب التراتيب ، أن انس بن مالك رضي الله عنه كانت عنده عصية لرسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم فمات فدفنت معه بين جنبيه وقميصه . ويروى أن الإمام أحمد بن حنبل كانت عنده ثلاث شعرات من الجسد الشريف فأمر أن توضع واحدة على عينه وأخرى على عينه الأخرى وأخرى على فمه .
ولقد حرص أصحاب الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم على أثاره الشريفة وكانوا يتبركون بها حتى أنهم كادوا يقتتلون على ما يتقاطر من أعضائه صلى الله تعالى عليه وسلم من الماء إذا توضأ وهو يرى ذلك ويقرهم عليه فكان ذلك دليلاً على جواز التبرك به شرعاً .
والمسلمون تعودوا أن يتبركوا بشعر رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم في يوم مخصوص وعند نزول البلاء ولأجل التداوي ونحو ذلك ، وأمة محمد صلى الله تعالى عليه وسلم لا تجتمع على ضلالة ، والحمد لله على ذلك ، فالمسلمون في كل الدنيا يعبدون الله وحده ويحبون رسوله العطوف صلى الله تعالى عليه وسلم ويتشوقون لرؤيته ، ويتبركون بشعره الطاهر المبارك طلباً للمنافع التي يخلقها الله وحده إكراماً لحبيبه المصطفى صلى الله تعالى عليه وسلم .
وهذه قصيدة للدكتور حسين علي محفوظ ألقاها أمام الشيخ محمد الشيخ عبد الكريم الكسنزان الحسيني بتاريخ 23 / 10 / 1992في بغداد بمناسبة زيارته وتبركه بشعرات حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم والتي هي بحوزة حضرة السيد الشيخ محمد الكسنزان الحسيني (قدس سره) .
مورد الجود مركز التنويل
شعرة بالدمـاء و النفس تفدى
وتُقَدّس بكـل شيءٍ جليـل
كـل أرواحنا فـدى ظل هذا
ك السنا من شعاعها المستطيل
يطلع الفجر من زجاجة مصبا
ح بها ينير كـل سبيـل
تشرق الشمس من ضياها ويفترّ
الضحـى من جلالها الموصول
ويعير الإصباح كوكبـها الشا
رق يحـذى ذبالـة القنديـل
يفلق الليل نورها الزاهر الزا
هي يُـديل الهدى على التضليل
ويشق الدجى شبا سيفها القا
طع يمضي كالصارم المسلول
يسفر الصبح مـن رُوا ضوئها
المبهج غضّ الجناب وحب المقيل
النهار الجميل بعـض سناهـا
ساطعا صادعا طويل الذيـول
والسراج المنير بيـن يـديها
كبقايـا الأصيل وقت الأفـول
وإذا البـرق لاح فهو سراج
يتعرى ذاك السنا المستطـيل
تتفيا النجوم في الأفـق الأع
لى ذرى ظلها المديد الظليـل
شعرة المصطفى تبارك ربّ ال
فلق اختارهـا لخـلٍ خليـل
نورهـا يخطف البصائر والأب
صار و الناظرون ولهى العقول
سبحـات النور المطهّر حفت
مشرق الوحي مطلع التنزيـل
حوض نور كل الخلائق تروى
رائقاً مـن فراتـه السلسبيـل
حوض ضوء يفيض باللطـف
والرحمة لجيه عديم المثيـل
شعـرة تستنير كالكوكب الدر
ي جلت عن مشبه أو عليـل
عانقتها الأشـواق ضمّاً ولثماً
واحتوتها بالشـم و التقبيـل
وفي شواهد التبرك بآثار حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم وأدلته يقول السيد الشيخ محمد الكسنزان قدس سره العزيز : إن حب حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم ، والذي هو مقياس الإيمان الحقيقي ليس مجرد ذكره باللسان ، بل هو نور يستقر في القلب ويملؤه ، فإذا استقر فيه رأيت آثار ذلك النور ظاهرة على المؤمن ، فيكثر من ذكره وتعظيمه وتقديره والثناء عليه بما يناسب قدره المطهر ، وترى المحب ولوعاً بالصلاة عليه ، حريصاً على اتباعه وإحياء سنته ، وإن الآثار المحمدية هي ما تركه حضرة الرسول الأعظم صلى الله تعالى عليه وسلم للوجود بعد انتقاله ليمثله ذاتاً وموضوعاً في تبليغ الرسالة وإحياء القلوب بعد موتها ، فهي امتداد لحقيقته المباركة المطلقة ، وهما كتاب الله والعترة المطهرة ( عليهم السلام ) .
( سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ )
وصلى الله تعالى على سيدنا محمد الوصف والوحي والرسالة والحكمة وعلى آله وصحبه وسلم تسليما .