رؤية الملائكة
بين المنفي والمثبت لرؤية الملائكة من قبل الصالحين ، نود أن نبدي رأينا ونقول : إن من معجزات رسولنا الأعظم سيدنا محمد صلى الله تعالى عليه وسلم ومن رفيع قدره وعظيم جاهه عند الله تعالى ، ومن بركته رؤية بعض أصحابه للملائكة الكرام ، بل حتى رؤية ملك الوحي سيدنا جبريل عليه السلام ، وكذلك تنزل الملائكة على أولياء أمته بشارة لهم وتثبيتاً على منهجهم وهذا من الكرامة للأمة المحمدية المرحومة .
فممن رأى جبريل من نساء النبي صلى الله تعالى عليه وسلم ما روى الشيخان من طريق أبي عثمان النهدي قال : أنبئتُ أنّ جبريل أتى النبيّ وعنده أمّ سلَمة ، فجعل يحدّث النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ثم قام ، فقال النبيّ لأمّ سلَمة : من هذا ؟ قالت : دِحيةُ . قال : فقالت أمّ سلَمة : ما حسبته إلا إيّاه حتى سمعتُ خطبة النبيّ يخبر بخبره . قلتُ : ممن سمعته ؟ قال : من أسامة بن زيد .
وروى الحاكم عن عائشة رضي الله عنها قالت : رأيت جبريل واقفاً في حجرتي هذه ورسول الله صلى الله عليه وسلم يناجيه ، فقلت : يا رسول الله ، من هذا ؟ قال : ( بمن تشبهينه ؟ ) قالت : بدحية ، فقال : ( لقد رأيت جبريل ) قالت : فما لبثت إلا اليسير حتى قال : ( يا عائشة ، هذا جبريل يقرئك السلام ) قلت : وعليه السلام جزاه الله من دخيل خيرا .
وكذلك ممن رأى جبريل جماعة من الصحابة ما رواه الشيخان أيضاً ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يوماً بارزاً للناس ، فأتاه رجل ، فقال : ما الإيمان ؟ قال : ( أن تؤمن بالله وملائكته وبكتابه ورسله ، وتؤمن بالبعث )، قال : ما الإسلام ؟ قال : ( أن تعبد الله ولا تشرك به شيئاً ، وتقيم الصلاة ، وتؤدي الزكاة ، وتصوم رمضان )، قال : ما الإحسان ؟ قال : ( أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك ) ، قال : متى الساعة ؟ قال : ( ما المسؤول عنها بأعلم من السائل ، وسأخبرك عن أشراطها إذا ولدت المرأة ربتها ، وإذا تطاول رعاء الإبل إليهم (في البيان) في خمس لا يعلمهن إلا الله ) ، ثم أدبر فقال : ردوه فلم يروا شيئاً ، فقال : ( هذا جبريل جاء يعلم الناس دينهم ) .
وروى أحمد والطبراني والبيهقي بسند صحيح عن من رأى جبريل من أفراد الصحابة ، أن حارثة بن النعمان قال : مررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه جبريل ، فسلمت عليه ومررت ، فلما رجعنا وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( هل رأيت الذي كان معي ؟ ) قلت : نعم ، قال : ( فإنه جبريل قد رد عليك السلام ) . وروى أبو موسى المديني في المعرفة عن تميم بن سلمة ، قال : بينما أنا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ انصرف من عنده رجل ، فنظرت إليه مولياً معتماً بعمامة قد أرسلها من ورائه ، قلت : يا رسول الله ، من هذا ؟ قال : (جبريل) .
وروى الإمام أحمد والبيهقي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كنت مع أبي عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده رجل يناجيه ، فكان كالمعرض عن أبي فخرجنا ، فقال : أي بني ، ألم تر أن ابن عمك كالمعرض عني ؟ قلت : نعم ، يا أبت ! إنه كان عنده رجل يناجيه ، فرجع ، فقال : يا رسول الله ، قلت لعبد الله كذا وكذا ، فقال : إنه كان عندك رجل يناجيك ، هل كان عندك أحد ؟ قال : ( وهل رأيته ، يا عبد الله ؟ ) قلت : نعم ، قال : ( ذاك جبريل هو الذي كان يشغلني عنك ) .
وروى البيهقي عنه قال : عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلا من الأنصار فلما دنا من منزله سمعته يتكلم في الداخل ، فلما دخل لم ير أحداً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( من كنت تكلم ؟ ) قال : يا رسول الله ، دخل علي داخل ما رأيت رجلا قط بعدك أكرم مجلساً ولا أحسن حديثاً منه ، قال : ( ذاك جبريل وإن منكم لرجالا لو أن أحدهم يقسم على الله لأبره ) .
وروى الطبراني والبيهقي عن محمد بن مسلمة ، قال : مررت برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واضع خده على خد رجل فلم أسلم ثم رجعت ، فقال : ( ما منعك أن تسلم ؟ ) قلت : يا رسول الله ، رأيتك فعلت بهذا الرجل شيئاً ما فعلته بأحد من الناس فكرهت أن أقطع عليك حديثك ، فمن كان يا رسول الله ؟ قال : (جبريل) .
وروى ابن أبي الدنيا في كتاب الذكر عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : قال أبي بن كعب رضي الله عنه : لأدخلن المسجد ولأحمدن الله بمحامد لم يحمده بها أحد ، فلما صلى وجلس ليحمد الله ، ويثني عليه إذا هو بصوت عال من خلفه يقول : اللهم لك الحمد كله ولك الأمر كله ، وبيدك الخير كله ، واليك يرجع الأمر كله علانيته وسره ، لك الحمد أنك على كل شئ قدير ، اغفر ما مضى من ذنوبي ، واعصمني فيما بقي من عمري ، وارزقني أعمالا زاكية ، ترضى بها عني ، وتب علي ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقص عليه ، فقال : ( ذاك جبريل عليه السلام ) .
وروى البيهقي وابن عساكر عن حذيفة بن اليمان ، قال : صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم خرج فتبعته ، فإذا عارض قد عرض له ، فقال لي : ( يا حذيفة ، هل رأيت العارض الذي عرض لي ؟ ) قلت : نعم ، قال : ( ذاك ملك من الملائكة لم يهبط إلى الأرض قبلها ، استأذن ربه فسلم علي ، وبشرني بالحسن والحسين أنهما سيدا شباب أهل الجنة ، وأن فاطمة سيدة نساء أهل الجنة ) .
وروى الشيخان عن أسيد بن حضير رضي الله عنه قال : بينما هو يقرأ من الليل سورة البقرة وفرسه مربوطة إذ جالت الفرس ، فسكت فسكنت ، فرفع رأسه إلى السماء ، فإذا هو بمثل الظلة فيها أمثال المصابيح عرجت إلى السماء حتى ما يراها ، فلما أصبح حدث رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقال : ( تلك الملائكة دنت لصوتك ، ولو قرأت لأصبح الناس ينظرون إليها لا تتوارى منهم ) .
ويقول الشيخ محيي الدين بن عربي في (الفتوحات المكية) عن تنزل الملائكة على أولياء الله تعالى : ( وأما من قال من أصحابنا وذهب إليه كالإمام أبي حامد الغزالي وغيره بأن الفرق بين الولي والنبي نزول الملك ، فإن الولي ملهم والنبي ينزل عليه الملك مع كونه في أمور يكون ملهماً فإنه جامع بين الولاية والنبوة ، فهذا غلط عندنا من القائلين به ، ودليل على عدم ذوق القائلين به ، وإنما الفرقان إنما هو فيما ينزل به الملك ، لا في نزول الملك ، فالذي ينزل به الملك على الرسول والنبي خلاف الذي ينزل به الملك على الولي التابع ، فإن الملك قد ينزل على الولي التابع بالإتباع بإفهام ما جاء به النبي مما لم يتحقق هذا الولي بالعلم به وإن كان متأخراً عنه بالزمان ، أعني متأخراً عن زمان وجوده ، فقد ينزل عليه بتعريف صحة ما جاء به النبي وسقمه مما قد وضع عليه ، أو توهم أنه صحيح عنه ، أو ترك لضعف الراوي وهو صحيح في نفس الأمر .
وقد ينزل عليه الملك بالبشرى من الله بأنه من أهل السعادة والفوز والأمان كل ذلك في الحياة الدنيا ، فإن الله عز وجل يقول : ( لهم البشرى في الحياة الدنيا ) وقال في أهل الاستقامة القائلين بربوبية الله : أن الملائكة تنزل عليهم ، قال الله تعالى : ( إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون نحن أولياؤكم في الحياة الدنيا ) ومن أولياء الله من يكون له من الله ذوق الإنزال في التنزيل ، فما طرأ ما طرأ على القائلين بخلاف هذا إلا من اعتقادهم في نفوسهم أنهم قد عموا بسلوكهم جميع الطرق والمقامات ، وأنه ما بقي مقام إلا ولهم فيه ذوق ، وما رأوا أنهم نزل عليهم ملك ، فاعتقدوا أن ذلك مما يختص به النبي ، فذوقهم صحيح وحكمهم باطل ، وهم قائلون أنه من أتى منهم بزيادة قبلت منه لأنه عدل صاحب ذوق ما عندهم تجريح ولا طعن ولا يتعدون ذوقهم ، فمن هنالك وقع الغلط ولو وصل إليهم ممن نقدمهم أو كان معهم في زمانهم من أهل الله القول بنزول الملك على الولي قبلوه وما ردوه ، وقد رأينا في الوقائع ممن تقدم جماعة غير القائلين بأمر ما فلما سمعوه منا قبلوه ولم ينكروه لارتفاع التهمة عنهم في أشكالهم وأمثالهم ) .
أما ما ذكره أكثر المفسرين في تفسير آية ( قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ ، قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي ) حيث فسروها بأن السامري قد رأى جبريل على فرس ، فأخذ حفنة من تراب حافر فرس جبريل ، فإن مشايخ الطريقة القادرية الكسنزانية لا يقولون بهذا التفسير أبداً ولكن أقرب تفسير لهذه الآية هو ما ذكره الإمام فخر الدين الرازي رحمه الله تعالى في تفسيره ، حيث ذكر قولا لأبي مسلم الأصفهاني يقول فيه : ( ليس في القرآن تصريح بهذا الذي ذكره المفسرون ، فههنا وجه آخر وهو أن يكون المراد بالرسول موسى عليه السلام ، وبأثره سنته ورسمه الذي أمر به ، فقد يقول الرجل : فلان يقفو أثر فلان ويقبض أثره إذا كان يمتثل رسمه ، والتقدير أن موسى عليه السلام لما أقبل على السامري باللوم والمسألة عن الأمر الذي دعاه إلى إضلال القوم في باب العجل ، فقال : بصرت بما لم يبصروا به ، أي عرفت أن الذي أنتم عليه ليس بحق ، وقد كنت قبضت قبضة من أثرك أيها الرسول أي شيئاً من سنتك ودينك ، فقذفته أي طرحته ) . وأما نحن ، فنعتبر هذه الآية من أكبر الأدلة على التبرك بآثار الأنبياء والصالحين ، حيث إنه فطن إلى ما لم يفطن إليه غيره من تأثير أثر رسول الله موسى عليه السلام في الأشباح ، ونقول : فكيف لا تحيا الأرواح بتقبيل أثر وطء العارفين بالله ، أو بتقبيل أقدامهم ، بل كل من خضع لهم وقبَّل أقدامهم حييت روحه ، وشعشعت أنواره ، وتحقق عرفانه ، لأن الخضوع لأولياء الله إنما هو خضوع لله ؛ لأنهم يدلون على الله ، ويبعدون عن كل ما سواه . ألا ترى إلى السامري ؛ حين خضع لغير الله بمجرد هواه كيف طُرد وأُبعد ، حتى صار مثلاً في الناس ؟