
مقام الشيخ الكباشي وأبناءه
مزار الشيخ الكباشي.. تاريخ من العلم والتصوف
يعد ابراهيم علي سهول من أشهر المشايخ الذين ذاع صيتهم في السودان، ويكنى “بالكباشي”، نسبة لاختلاطه بقبائل الكبابيش في غرب السودان، ولد عام 1200ه بقرية معتوق بولاية الجزيرة لأم من أصل جعلي نافعابي، ونسبه لأبيه من قبيلة العركيين، وينتهي نسبه إلى الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، نشأ في بيت قرآن وتصوف درس علوم الشريعة “القرآن، التجويد،الفقه، السنة” علي يد الشيخ إبراهيم ود عيسى بخلوي علي ود الفادني جنوب الحصاحيصا حيث أكمل تعليمه وحفظ القرآن بها، وتوفي عام 1286ه.
تنقل في أنحاء السودان ينشئ الخلاوي ويعلم القرآن فحفظ على يديه خلق كثير، استمر في ترحاله حتى استقر بمنطقة الكباشي التي تبعد 30 كيلومترا شمال الخرطوم حيث يرقد ضريحه الآن. أسس “مسيداً” (أي مزاراً) حمل اسم الشيخ الكباشي، وحفر الآبار والحفائر في المناطق الخلوية ثم عمل بالزراعة إلا أن اهتمامه كان بالقرآن ونشره، وكان يتبع الطريقة القادرية نسبة لعبدالقادر الجيلاني والتي ينتمي إليها معظم أهل السودان، وساهم الشيخ إبراهيم في حل كثير من النزاعات القبلية بحكمته خاصة النزاعات القبلية بين قبائل الكباشي وغيرها من قبائل غرب السودان.
سياسة وجهاد
عاصر الشيخ إبراهيم عهد حكم الأتراك للسودان، وكان معارضاً لهم، ويذكر أن الحاكم التركي موسى باشا حاكم السودان آنذاك فرض ضرائب أثقلت وأرهقت السودانيين، فما كان من الشيخ إبراهيم الكباشي إلا أن أمر القبائل بعدم دفع هذه الضريبة، وإخراج الزكاة فأرسل الحاكم التركي قوة لتعتقله إلا أن هذه القوات يقال إن الأرض خسفت بها عندما أرادت اقتياده.
بعد وفاته خلفه ابنه الأكبر الخليفة محمد، ثم الخليفة طه، والخليفة عبدالوهاب، والخليفة البشير، وكلهم أبناؤه، وأول من تولى من أحفاده الخليفة الحبر، ثم ابنه الخليفة عبدالوهاب، وهو خليفة الكباشي الآن.
“الخليج” جلست إلى الخليفة عبدالوهاب، وهو شاب في مقتبل العمر، ترك الحياة العملية بعد تخرجه في الأزهر، حيث أجمعت الأسرة على خلافته وخرجت بهذه السياحة الصوفية في رحاب الطريقة الكباشية.
يقول عبدالوهاب ان مزار أو “مسيد” الكباشي يضم عدداً من الخلاوي أي الكتاتيب التي يحضر إليها طلاب العلم من مختلف أرجاء السودان لحفظ القرآن، وأيضا للعلاج بالقرآن ولكن لضيق المسيد حاليا، هناك مشروع خلاوي سينفذ قريبا شرق موقع الضريح الحالي “القبة”.
ويكشف عبدالوهاب ان جده الشيخ الكباشي ساهم ومن بعده خلفاؤه في الصلح بين المتخاصمين، وعلى مستوى كل طبقات المجتمع، وكثيراً من الأحيان تنتقل المحكمة إلى “مسيد” الكباشي وأمام الشيخ يتم الصلح. والخليفة عادة هو الذي يشرف مباشرة على أمر الخلاوي سواء التي في القرية أو تلك التي أنشئت في عدد من المناطق المختلفة بالسودان.
والخليفة عبدالوهاب والخلفاء من قبله لم يكونوا بعيدين عن العمل السياسي في السودان، ولكن لم يكونوا متفرغين له، والخليفة عبدالوهاب كان من ضمن قادة مؤسسات ومنظمات المجتمع المدني التي سافرت إلى نيفاشا، لحضور حفل توقيع اتفاقية السلام الأخيرة، كما أن الكثير من المسؤولين في الدولة يذهبون لاستشارة الخليفة، وليدعو لهم بالخير والبركة.
وعن دعم الخلاوي وضيافة طلاب العلم ومن أين تمول قال عبدالوهاب: إن بركة القرآن تحل عليهم دائما بالخير الوفير الذي يكفي حاجتهم وإن موائدهم لا تنضب أبدا بإذن الله، ويضيف: سخر للشيخ الكباشي ومن بعده خلفاؤه علاج العقم بإذن الله، وسخر لهم تأديب السم، أي “من حثا من تراب شيخ الكباشي لا يصاب بلدغة عقرب أو ثعبان” بإذن الله وهذه من أكبر الكرامات التي أعطوها. وتشتهر في السودان مقولة “يالكباشي من الماشي” أي الزواحف.
ويعرف عبدالوهاب نفسه: أنا الخليفة عبدالوهاب الخليفة الحبر البشير الشيخ إبراهيم الكباشي خليفة الشيخ إبراهيم الكباشي، ينتهي نسبنا إلى النسب الشريف للإمام الحسين بن الإمام علي كرم الله وجهه من جهة الأب عركي، ومن جهة أمه جعلي.
سيرة تاريخية
ويعود عبدالوهاب إلى سيرة تاريخية عن الكباشي، ويقول: ولد الكباشي في الجزيرة ريفي المناقل قرية أبو قيض جوار معتوق، وتلقى تعليمه في خلوة ود الفادني، حفظ القرآن وجوده على يد الشيخ “كلي” ثم اتجه إلى ناحية الشمال لطلب العلم على يد الشيخ عيسى صاحب مسيد ود عيسى، ثم أخذ قسطا من المعرفة، فهو حافظ لكتاب الله عالم بأصول الفقه والدين، بعدها أخذ طريق القوم.. الطريق القادري، على يد الشيخ طه البطحاني، بعدها تحرك إلى الشمال ناحية الخرطوم ثم الحلفايا ثم أبو حليمة، ومن بعد استقر به المقام في هذه القرية، وكانت عبارة عن غابات وخلاء فاهتم بالجانب الزراعي حتى يقوم بأمر المسيد، وانقطع الكباشي لتدريس الطلاب والطالبين العلم، كذلك ارشد الطالبين لطريق القوم فأخذ على يديه الطريقة القادرية الكباشية رجال كثيرون مثل الشيخ محمد الأمين، وصالح، والشيخ الأمين ود بلة، وحفظوا القرآن على يد الشيخ الكباشي ولكنهم أخذوا طريق القوم على يد الشيخ ود بدر وكذلك كثير من الرجال درسوا وأصبحوا أعلاماً في وقتها، فكانوا يرشدون الناس إلى اليوم على الطريقة الكباشية أمثال الشيخ الزاكي، والشيخ أبو زيد والشيخ مرزوق، والشيخ احمد ود عثمان، وكل في مكانه منهم في النيل الأبيض، وكردفان الشمالية، والشرق. ويشير عبدالوهاب إلى ان جده الكباشي تزوج عدداً من الزوجات انجب منهن عدداً كبيراً من الأولاد وجميع أهل قرية الكباشي يرجع نسبهم إليه.
خلافة الطريقة
ويحكي عبدالوهاب: “بعد انتقال الشيخ الكباشي، جاءت الخلافة إلى ابنه الأكبر الخليفة محمد، وهو عاصر الإمام محمد احمد المهدي الذي وجد تأييداً من أبناء الكباشي، وجاهد معه، فالخليفة محمد ظل مجاهدا طيلة فترة خلافته، إلى أن استشهد مع عبدالرحمن النجومي في معركة توشكى الشهيرة، ومعه عدد من أبناء الكباشي، ثم من بعده جاء الخليفة الحاج طه ثم الخليفة عبدالوهاب ثم الخليفة البشير “وكلهم أبناء الكباشي”، ثم انتقلت الخلافة إلى والدنا وهو من الأحفاد ثم انتقلت الخلافة إلينا”.
ويقول عبدالوهاب: العلم واجب على كل الناس، ولكنه إلزامي علينا نحن أبناء المشايخ، فأنا تلقيت تعليمي في مدرسة الشيخ الكباشي: المسيد، فالخلوي، ثم معهد أمدرمان العلمي، ثم الأزهر الشريف، ثم دخلنا مجال الحياة العامة، وفي حياة والدنا كنا نقوم على الضيوف والمسيد والخلوة، ثم آلت إلينا الخلافة، حقيقة الفارق كبير بين الحياة العادية وحياة المشايخ، فشكلت لنا نقلة مهمة جدا، مما كنا عليه قبل الخلافة، والآن الخلافة تربطنا بكل الناس، فنحن نتعامل مع كل المجتمع وكل ضروبه، والخلافة تفرض علينا التعامل مع الناس كل بطريقته وبفكره وأسلوبه والشيء الثاني الخلافة يأوي إليها كثير ممن يطلبون القرآن، ومن يطلب العلم، ومن يطلب حل المشاكل، ومن يطلب العلاج والإعانة في مختلف ضروب الحياة.
والعرف السائد أن المشايخ منعزلون ولكن الحقيقة أن لهم دوراً واسعاً في المجتمع، وقد تجد شيخ الطريقة في خلوته يفهم كثيراً من حياة الناس وقضاياهم.
وفي معرض رده على الأسئلة يقول عبدالوهاب ان تطورا كبيرا حدث بالنسبة لإقبال الناس على المشايخ، فالإنسان إذا ما وجد ما يفتقده ويرتاح له حتما يستمر فيه. والدولة متعاونة تماما، وغيرها من الخيرين، فنحن أهل القرآن نمسي بلا شيء ونصبح بشيء كثير، والدولة لها دور واسع ودوما على اتصال بنا، ونحن أيضا معهم في مناسباتهم، ويأتون إلينا، وقد سافرنا إلى نيفاشا بناء على طلب الدولة للمشاركة في توقيع السلام.
رؤى مستقبلية
وحول الرؤى المستقبلة للمسيد والضريح ومجاراة العصر يقول عبدالوهاب: حقيقة نحن في مرحلة توسيع كامل للمسيد والمنشآت الملحقة به من داخليات للطلاب، حتى يتم الاستقرار لهم والخلاوي حاليا مبنية من الطوب اللبن، والطلاب جلوس على الأرض، ويأكلون العصيدة، نحن نرى أن المسيد يجب أن يجد الاهتمام، سواء كان من القائم على أمره أو من جانب الدولة، فطالب القرآن إذا هيأت له يكون أفيد وخريج الخلوة يمكن أن يصبح طبيبا ومهندسا، فإذا تم تأهيلهم بصورة طيبة يكونون ذوي فائدة كبيرة للمجتمع. ونحن نهتم بإدخال الكمبيوتر في الخلوة لحفظ المعلومات الأساسية عن الطلاب وبالتالي يسهل استرجاعها، ويشير إلى ان “الشيخ كان مؤلفا قبل أن يكون شيخا” وله العديد من المؤلفات مثل “انشقاق القمر، السير إلى الله، بالإضافة إلى المأثورات”.
كرامات
واشتهر الشيخ الكباشي بالعديد من الكرامات التي استمرت إلى يومنا هذا، بدعوة من أبينا الشيخ الكباشي، وهي تسخير السم، فمن يتبرك ببركة الكباشي على حد قول عبدالوهاب لا يصيبه لدغة عقرب أو حية، بفضل الله

ويقول عبدالوهاب ان علاقتنا بكل القبائل حميمة وطيبة، ويجمعنا نسيج اجتماعي واحد، لذلك كان ومازال لنا دور كبير في فض النزاعات القبيلة الكبيرة، فنحن حاليا في حركة دؤوبة لحل مشكلة دارفور، وقبل شهرين ذهبنا للإصلاح بين قبائل الكبابيش “كردفان” وقبائل البرتي “دارفور” فوفقنا الله إلى حلها بعد ان بلغ عدد القتلى من الطرفين 70 شخصا.
ويضيف عبدالوهاب: ان لرمضان طبيعة خاصة في المسيد، وهو من الأشهر العظيمة، فأيامه عامرة بالذكر والعبادة وتلاوة القرآن والتهجد، ولأن العبادة في رمضان تتضاعف كان الاهتمام به من قبلنا كبيرا، ففيه ننظم الإفطارات الجماعية ونعد موائد الرحمن لكل الضيوف والطلاب، وتمارس فيه روحانيات عالية منذ الإمساك إلى الإفطار.
حب النبي
ويعرج عبدالوهاب إلى تميز السودانيين وتفردهم في محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، قائلاً: هنالك محبة عالية لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قبل السودانيين، وهم صادقون في حبهم له، فعلاقة السودانيين بالتصوف كبيرة، وأهل الطرق يسيرون على نهج الرسول صلى الله عليه وسلم، وهذا ما جعل هذا الحب ينتقل إلى كل أهل السودان شباباً ونساء وشيوخاً، فعلاقة السودانيين بالتصوف علاقة دين وهي في تنام وزيادة مطردة.
المصدر: موقع دار الخليج
2004-11-08