ابو الوفا التفتازاني
أبو الوفا التفتازاني ، سيرة مضيئة وخلق كريم ست سنوات مضت على وفاة الدكتور التفتازاني ( 1930 – التاسع والعشرين من يونيو 1994 ) ، ولا يزال فكره مضيئاً أمام الجيل ، الذي عاصره ، وأفاد من علم هذا المفكر والعالم الجليل ، ولا تزال شخصيته ماثلة للعيان ، وسيرته نموذجا رفيعاً للخلق الكريم ، والأدب النبيل .
ولد التفتازاني في الرابع عشر من أبريل من عام 1930 بكفر الغنيمي مركز منيا القمح من محافظة الشرقية . من أسرة كريمة لها مكانتها ومنزلتها الرفيعة في المجتمع .
والده السيد محمد الغنيمي التفتازاني شيخ الطريقة الغنيمية التفتازانية علم من أعلام مصر ( 1893 – يناير 1936 ) كان يحتل مكاناً عالياً من المجتمع المصري آنذاك ، ويصفه محمد مصطفى حمام بأنه كان خطيباً وأديباً وشاعراً وصحفياً ومحدثاً ساحراً وكان غنياً في اللغات الإنجليزية والفرنسية والفارسية والتركية والعبرية والسريانية . . ويقول عنه حافظ محمود نقيب الصحفيين الأسبق : أنه لم يكن أحد أذكى منه ، ومع أنه لم يدخل الأزهر كان ملجأ للذين يطلبون الفتوى في أمور الدين ، وعمل مدرساً في اللغة لكبار الدبلوماسيين في القاهرة ، وكان بيته بحي الحنفي ملجأ لذوي الحاجات ، وكان إذا دخل منتدى فهو خطيبه الأول ، وكان الوزراء والشيوخ يحتفون به ، وكأنه زعيم ، كما كان أول شيخ من غير شيوخ الإسلام يقف فوق منبر المسجد الأقصى في القدس ، ليخطب الجمعة في يوم الإسراء والمعراج . وتولى مشيخة السادة الغنيمية من عام 1906م .
ورث الدكتور التفتازاني عن والده الذكاء والموهبة وحب العلم وعنّي والده بتربيته تربية حسنة ، فنال الابتدائية بتفوق ، مع الصدمة الشديدة التي أصابته بوفاة والده وهو في السادسة من عمره ، ونال الثانوية ، ثم الليسانس في الآداب من قسم الفلسفة بجامعة فؤاد الأول ( القاهرة فيما بعد ) عام 1950 بتقدير جيد جداً . ثم الماجستير في سبتمبر 1955 عن رسالته ( ابن عطاء الله السكندري وتصوفه ) ، ثم الدكتوراه مع مرتبة الشرف الأولى برسالته ( ابن سبعين وفلسفته الصوفية ) ، وكان أستاذه هو الدكتور محمد مصطفى حلمي ، رئيس قسم الفلسفة الإسلامية بآداب القاهرة أنذاك .
وفي حياته العلمية عمل مدرساً بمدرسة فؤاد الأول الثانوية بالعباسية ، ثم معيداً فمدرساً بقسم الفلسفة بكلية الآداب .
وفي أثناء عمله معيداً ندب مدرساً في معهد الدراسات الإسلامية بمونتريال في كندا لمدة عام ، وكان معه في هذه الرحلة المرحوم الدكتور محمد البهي رحمه الله .
وارتقى الدكتور التفتازاني في السلك الجامعي أستاذاً مساعداً ، فأستاذا في الفلسفة الإسلامية في المقعد الذي كان يشغله من قبل الشيخ مصطفى عبد الرزاق ( شيخ الأزهر فيما بعد ) ، ثم الدكتور محمد مصطفى حلمي . . ثم عين وكيلاً لآداب القاهرة ، فعميداً لكلية التربية بالفيوم التابعة لجامعة القاهرة ، ثم نائباً لرئيس جامعة القاهرة لشئون فرع الفيوم وبني سويف ، فنائباً لرئيس الجامعة لشئون الدراسات العليا والبحوث .
وتخرج على يديه جيل جديد من حملة الدكتوراه وأصبحت له مدرسة علمية متميزة في مجال الفلسفة الإسلامية والتصوف ، وهي مدرسة تجمع بين القديم والحديث في بناء الثقافة ، وتنقية التراث الفلسفي الإسلامي وربطه بالفكر الحديث والمعاصر . وأسهم الدكتور التفتازاني في إنشاء مركز البحوث والدراسات الإسلامية بجامعة القاهرة ، كما أسهم في أعمال علمية جامعية كثيرة بجامعة بيروت العربية وجامعات الكويت وليبيا وقطر وغيرها . . وتولى مشيخة الطرق الصوفية بالقاهرة عام 1983 وأصدر مجلة التصوف الإسلامي ، التي كتب فيها أعلام الفكر الإسلامي الحديث . ومؤلفات وبحوث ومقالات الدكتور التفتازاني بالعربية والإنجليزية إسهام كبير في ميدان الفلسفة الإسلامية والتصوف ، وهي مصدر غني بالفكر الصوفي الفلسفي المستنير ، لكل الدارسين والباحثين في هذا المجال ، وكتابه ( المدخل إلى التصوف الإسلامي ) من أوثق المصادر في الدراسات الصوفية .
واختير التفتازاني في حياته عضواً في المجلس الاستشاري للأكاديمية الإسلامية بجامعة كمبردج والمجلس العالي للمؤتمر العالمي للدين والسلام في نيويورك ، وعضواً في مجلس الشورى المصري ، ونال الجائزة التقديرية في العلوم الاجتماعية عام 1985م ، ووسام الامتياز من الرئيس الباكستاني عام 1989 ، وزار العديد من الدول الإسلامية والعربية والغربية ، وكان موضع التقدير من كل الهيئات العالمية . التفتازاني في فلسفته الصوفية يرى أن التصوف الإسلامي غني بالدراسات النفسية والأخلاقية والروحية ، وقد جمع في الميدان الجامعي بين المتصوف وأستاذية الفلسفة الإسلامية ورياسة الجمعية الفلسفية المصرية والمشيخة الكبرى للطرق الصوفية في مصر ، مما لم يتوافر لغيره من رواد الفكر الإسلامي الحديث .
وكان الدكتور التفتازاني يدعو إلى توحيد وتأكيد العلاقة بين التصوف والفلسفة والدين والفكر العلمي الحديث ، والعلاقة الثلاثية بين الفقه والتصوف والفكر الفلسفي الإسلامي . . ويرى وجوب تنقية التراث الصوفي مما دخل فيه من أوهام وأساطير وخرافات .
وعن أربعة وستين عاماً لقي التفتازاني ربه بعد حياة حافلة قضاها في خدمة الثقافة والبحث والمعرفة . . وترك سيرة عطرة ، ونموذجاً رفيعاً للسلوك والأخلاق وخدمة العلم ، وإثراء الدراسات الإسلامية . . رحمه الله .