
غيرة عمر على الآثار النبوية


أي لم يتفق رأي رجلين على شجرة واحدة بالتعيين ، فإذا كان هذا في خلال سنة واحدة في عهد واحد ومع توافر وجود أصحاب الرضوان الذين حضروا عندها وبايعوا تحتها فما بالك بشجرة ظهرت في زمن عمر بعد سنوات عديدة .
اختلف العهد ومات أكثر من حضر الموقف ، واختلف الناس في تعيين الشجرة المباركة التي تشرفت بالبيعة المحمدية ، وحصل عندها أعظم موقف من مواقف التضحية والجهاد اهتزت له السموات والأرض ، وشهدته الملائكة الكرام وسجله القرآن بقوله :


ثم كان عند هذه الشجرة المباركة الميمونة إعلان منقبة من أعظم مناقب وخصائص النبي الأعظم والرسول الأكرم صلى الله تعالى عليه وسلم سجّلها القرآن بقوله :


فعمر رضي الله عنه لم يقطعها ليمنع التبرك بالآثار أو لأنه لا يرى ذلك ولم يقع ذلك المعنى في قلبه أصلا ولم يخطر على باله أبداً بدليل أنه رضي الله عنه ثبت عنه التبرك وطلب التبرك بالآثار ونحوها كطلبه من أبي بكر العنزة التي كانت عند رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ومحافظته على خاتم رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم وغير ذلك ، وكان رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم قد استعار تلك العنزة من الزبير كما في البخاري في باب شهود الملائكة بدراً اهـ من المغازي . وفي نسخة القسطلاني (ج6 ص264) .
الاهتمام بالنعال النبوية والقيام بدراسة علمية لها
ومن الآثار النبوية التي نالت اهتمام العلماء وعنايتهم النعال النبوية ، بل حظيت بدراسة عميقة ودقيقة عن صفتها ومثالها ولونها ، فكتبوا عنها البحوث المتخصصة وألفوا فيها الرسائل المستقلة .
والمقصود من ذلك كله هو صاحب النعال ، ألا وهو النبي الأعظم والرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم .وإذا كنا نهتم بآثار العظماء وملابسهم وثيابهم ومتاعهم ونبذل في حصيلها الغالي والرخيص ونقيم لها المتاحف الخاصة والخبراء المتخصصين فإنه صلى الله تعالى عليه وسلم نفسي له الفداء أولى وأحق ، فلو بذلت المهج وحر الأموال في سبيل ذلك لكان رخيصاً لأجله صلى الله عليه وسلم .
مفهوم الاجتماع
جرت عادتنا أن نجتمع لإحياء جملة من المناسبات التاريخية كالمولد النبوي وذكرى الإسراء والمعراج وليلة النصف من شعبان والهجرة النبوية وذكرى نزول القرآن وذكرى غزوة بدر ، وفي اعتبارنا أن هذا الأمر عادي لا صلة له بالدين فلا يوصف بأنه مشروع أو سنة كما أنه ليس معارضاً لأصل من أصول الدين لأن الخطر هو في اعتقاد مشروعية شيء ليس بمشروع ، وعندي أن أمثال هذه الأمور العادية العرفية لا يقال فيها أكثر من أنها محبوبة للشارع أو مبغوضة وأظن أن هذا القدر متفق عليه ، ويدعي البعض أن هذه المناسبات التي يجتمع الناس لإحيائها ينقصها التوقيت المضبوط المتفق عليه ، فيقول : إن الناس تعودوا أن يجتمعوا ليلة السابع والعشرين لإحياء ذكرى الإسراء والمعراج ، وأن يجتمعوا ليلة الاثني عشر من ربيع الأول لإحياء ذكرى المولد النبوي مع أن العلماء اختلفوا في تعيين وقت هاتين الحادثتين بالضبط ، وأنا أقول : إن عدم الاتفاق على تعيين الوقت لا يؤثر لأننا لا نعتقد مشروعية تحديد الاجتماع بوقت مخصوص بل الأمر عادي كما أسلفنا والذي يهمنا هو اغتنام فرصة الاجتماع وكسب ذلك لتوجيهه إلى الخير فهذه الليلة قد اجتمع الناس فيها بشكل فظيع وعظيم وسواء أخطأوا التوقيت أم أصابوا ، فإن مجرد اجتماعهم هذا على ذكر الله ومحبة رسول الله كاف في استجلاب رحمة الله وفضله .
إني أعتقد تمام الاعتقاد أن اجتماع هؤلاء الناس ما دام أنه لله وفي الله فإنه مقبول عند الله ولو أخطأوا في التوقيت ، وأضرب لذلك مثلاً لتقريب القضية للأذهان برجل دعا إلى وليمة في يوم معين فجاء بعض المدعوين في غير وقت الدعوة ظناً منهم أنه هو الوقت فهل ترى أن صاحب الوليمة يطردهم ويردهم بجفوة وغلظة ويصد عنهم ويقول لهم : ارجعوا وانصرفوا عني فليس هذا هو وقت الوليمة الذي دعوتكم إليه وحددته لكم ، أو ترى أنه يقابلهم بالحسنى ويشكرهم على قدومهم ويفتح لهم بابه ويطلب منهم الدخول ثم يطلب منهم الرجوع مرة أخرى في الوقت المحدد ؟ هذا الذي أتصوره وهو اللائق بفضل الله وكرمه .
ونحن إذا اجتمعنا للإسراء والمعراج أو للمولد النبوي ولأي ذكرى من الذكريات التاريخية لا يهمنا تعيين الوقت بالضبط لأنه إن كان موافقاً للصواب في الواقع ونفس الأمر فالحمد لله ، وإن كان غير ذلك فإن الله لا يردنا ولا يغلق بابه عنا .
فاغتنام فرصة الاجتماع بالدعاء والتوجه إلى الله سبحانه وتعالى والتعرض لنفحاته وخيراته وبركاته هو أجل من فائدة الذكرى نفسها عندي ، واغتنام اجتماع الناس بتذكيرهم وإرشادهم ونصحهم وتوجيههم إلى الخير هو أولى من صدهم وردهم والإنكار على اجتماعهم بما لا طائل تحته إذ المشاهد أن ذلك لا ينفع ولا يفيد وأن الناس يزيد إقبالهم ويعم تمسكهم كلما زاد الإنكار عليهم أو اشتد حتى كان الناهي لهم عن ذلك آمر لهم بفعله من حيث لا يشعر .
إن العقلاء من أرباب الفكر والدعوة يتمنون بكل قلوبهم أن يجدوا مكاناً يجتمع فيه الناس ليبثوا فيهم آراءهم ويكسبوهم إلى صفهم ، ولذلك تراهم يرتادون الحدائق والنوادي والأماكن العامة التي يكثر فيها اجتماع الناس ليصنعوا بهم ما يريدون ، ونحن نرى الأمة تجتمع في مناسبات متعددة برغبة وهمة وحرص فما هو الواجب علينا نحوهم ؟ .
إن الاشتغال بالإنكار والأخذ والرد في حكم اجتماعهم وما إلى ذلك هو عبث بل وحمق وجهالة لأننا نضيع كنزاً عظيماً ونفوت فرصة لا يمكن أن يجود الزمان بها إلا في مثل هذه المناسبات .
المصدر: من كتاب مفاهيم يجب أن تصحح للدكتور محمد العلوي المالكي الحسني .