من كتاب الطريقة القادرية في السودان والدعوة الى الله
لكاتبه الشيخ محمد الخليفة الحسن ابوقرون
نسبه وميلاده:
هو الشيخ إدريس بن محمد الأرباب بن على بن إدريس بن فلاح. والدته صلحة بنت الشريف أبو دُنانة (1).
فهو من ناحية والده من قبيلة المحس - يتصل نسبه بالأنصار- وقد وصلت قبيلتهم من وقت موغل في تاريخ الحياة السودانية من ضمن القبائل العربية التي تدافعت مع الفتوحات الإسلامية لضنقلا وغيرها من بلاد الممالك النوبية، ولعلها استقرت وقتًا بالمحس ثم رحلت إلى وسط الخرطوم في توتي وغيرها.
نشأته وعلمـه وثقافتـه:
اختلفت الروايات حول مسقط رأسه. في طبقات ود ضيف الله أنه ولد بالعيلة فونج وقيل بالحليلة شوحطت ـ شمبات الحالية ـ ويقول :(الفكي الصديق حضرة أنه ولد في جهة شمبات في محل يقال له شوطحت ما بين السكة حديد البحرية وبحري شمبات)، ودلائل تؤكد ولادته ونشأته بتلك المنطقة، وتلقى تعليم القرآن الكريم علي الشيخ البنداري بما قدّر له من علوم ثم تابع مراحله الدراسية علي الشيخ حمد ولد زروق بالصبابي. ودراسته علي الشيخ البنداري تمثل مرحلة مبادئ الكتابة والقراءة إلا إنه وصل فيها إلى درجة مكنته من الإطلاع والدراسة الخاصة.
ومدرسة الشيخ حمد إلى جانب القرآن كانت تقوم بدراسة العلوم الفقهية واللسانية. وقد أشار أحد الباحثين بقوله: (ويبدو أن هذه الشعبة كانت من القوة بمكان، بدليل أنها هيأت الشيخ إدريس لمنازلة الشيخ علي الأجهوري في ميدان الفقه، والشيخ علي الأجهوري لم يكن عالماً مالكياً فحسب، وإنما كان شيخ المالكية في عصره وإمام الأئمة وعَلم الإرشاد وعلامة عصره، ومنازلته منه إذا دلت على شيءٍ فإنما تدل على قــوة وتمكّن المُنازِل في الفقه) (1).
ويشير ود ضيف إلى ما كان يحوي من علوم بعبارات تكاد تخرجه عن طوره الكسبي العادي الذي أفني فيه زهرة حياته قال: كان رضي الله عنه
(لا يتحدث معه في علم من العلوم إلا تحدث معك فيه حتى يقول السامع له أنه لا يحسن غيرهذا العلم فتكلم في علم الأولين والآخرين والأمم الماضية فكان أكابر العلماء يكونون بين يديه كالأطفال). إمور كثيرة من فقه الدين في حياة الناس ناظر وحاور العلماء ويبدو انه كانت له رؤاه الخاصة مع مراعاة المذهب السائر عليه، ويبدو أن وجوه المناظرة أخذت بعداً شعبياً في مسألة شرب الدخان الذي ناظر فيه الشريف عبد الوهاب راجل (أبو سُمبل) بحضرة الشيخ عجيب المانجلك- ولعله هو الذي طلب المحاورة العلمية بين الرجلين بينما يري الشيخ إدريس حرمته. فيقول له الشريف عبد الوهاب: من راسك أو من كراسك، وهو يري اباحته.
وقد رتب الشيخ إدريس فتواه علي آراء وحوادث علمية سابقه من العلماء لها وجاهتها الفقهية وتحدث عن فتوى السلطان مصطفي ومذهب مالك -في طاعة السلطان - ثم تحدث عن إمور لم يرد فيها نص من الشارع - وهي من دقائق الفقه الإجتهادي التي تخرج الفقيه عن الطور التقليدي إلى ممارسة الرأي الخاص فيما لم يرد فيه نص. وهو حق مكفول شرعا وعقلا، والأمر دعاه إلى مكاتبة الشيخ الأجهوري فكتب رسالة مع تلميذه حمد ود أبو عقرب يوضح فيها رأيه الفقهي في حرمة التنباك ويبدو أن الشيخ الأجهوري أوقفته عبارة لم تنسجم معه، قول الشيخ إدريس: «سمعت رسول الله(r) قال: التمباك حرام». فرمي الرسالة لصاحبها. ولعل أمر الدخان وجدله بين العلماء لم تكن دائرته المملكة السنارية وحدها آنذاك. ويبدو أن الشيخ إدريس كان يسمع بفتوى الشيخ الأجهوري (بإباحته) للسجائر فكاتبه من هذا المنطلق وكان صحن الأزهر يمثل حلبة صراع بين العلماء في تناول الموضوعات المختلفة ومسألة الدخان وتعاطيه مسألة شغلت العالم الإسلامي آنذاك الأمر فيها ليس بالسهل ولم تصف للشيخ الأجهوري فتواه وكان الميدان واسعاً فيما لم يرد فيه نص شرعي،يبدو أنّ رسالة الشيخ إدريس ود الأرباب أثارت جدلاً علمياً ساخناً في ساحة الأزهر وأنّ احمد تلميذه قصد عرض الرسالة علي دوائرها - ووصل الأمر فيها بين علمين من أعلام العلم والفقه يشار إليهما بالبنان إلي (المباهلة)- الشيخ على الاجهوري - شيخ علماء المالكية بالأزهر- والشيخ إبراهيم اللقاني رصيفه في ذلك وهو صاحب عقيدة الجوهرة الأشعرية كلاهما من علماء المالكية، فكانت المباهله من الشيخ اللقاني لأن أمر السجائر والحديث فيه لم يرد فيه نص بحرمته أو اباحته، وهو مطروح للتشريح العلمي وأراء العلماء لفوائدٍ أو أضرارٍ في السجاير والرؤية الصائبة وهي التي تجنب الإنسان الضرر والدين أبداً مرسلٌ مصالحه في خدمة الإنسان، ولعل من ذهب إلى حرمته بنى رأيه على قاعدة الضرر فيما يصيب جسد الإنسان وفيما يتلف المال فيما فيه ضرراً، ومن ذهب إلى اباحته يري إنه غير مسكر وغير مخدر أو مذهب للعقل ولكنه مع عدم الحرمة يري تجنبه - والأمر في هذا شائك إلى يومنا هذا، والعلم كل يوم يكشف أضراراً في تدخين التبغ - فقال الشيخ اللقاني: اللهم من أصبح منا أعمي فهو علي باطل- فكل من الرجلين يعلم أثر هذا الدعاء عليه وهو موقن بصحة رأيه، فأصبح الشيخ الأجهوري أعمي بسبب ضربة في رأسه من أحد الجهلاء في فتوة عرضها عليه في زوجته المطلقة ثلاثاً - فحرمها عليه بمنصوص الشرع حتي نكح زوجاً غيره وقد استكبر الأمر، وقد شفي الله الشيخ الأجهوري مما أصابه من سحابة عمىٍ فرأي رؤية نبوية متعلقة بأمر السجائر، فطلب بعدها تلميذ الشيخ إدريس(( حمد ود أبو عقرب)) وأرسل معه هديه تقديرية لأستاذه لمكانته العلمية التي لمسها في رسالته والمنحي الروّحي الشفاف- والهدية عبارة عن لبس العلماء وقد رأي الرجل أنه من أهل العلم وهي عمامة وشدة[حزام] وجوخة - علها عباءة أو فرجية- وراية الأجهورية المشهورة تمثل هدية أهل المنحي الروّحي من رجال التصوف – وهي راية صنعت من النحاس عليها هلال بتاريخ [981] توجد الآن عند خلفاءه، (1) وعلهكان له من العمر 71سنه من تاريخ ولادته – يؤرخ له 912هـ من القرن العاشر، و يبدو أن أراء فقهية كان للشيخ إدريس فيها رأي من جانب إجتهادي خاص يختلف فيه مع الفقهاء في الفرعيات، وهذا جانب يخالف طابعه للفقيه التقليدي الذي حفظ المتون وصال في حواشيها يفتي من خلالها ولا يستطيع تعدي مرسومها، وقد أثار هذا جدل بينه وبين الفقهاء في كثير من القضايا ومن بينها قضية الدخان وعلّ الشيخ صغيرون صاحب قوز العلم دعته مكانته العلمية أن يقف علي حقيقة الرجل الذي تحدث فيه الناس بين قادح ومادح، فقدم إليه ومعه عشرون طالبا- معهم كتب الفقه التي ترتكز عليها أحداث الفتوة من أقوال المشايخ، اختاروا سبعة عشر مسألة ويبدو إنها من الإمور التي لمسوا أن للشيخ إدريس فيها رأي إجتهادي أجاب كل مسألة بما يوافق روح الفقه والسعة العلمية التي كان الشيخ صغيرون من بحارها فسلموا له بالعلم وبصيرة الفتوى وسلكوا عليه طريق التصوف. (2)
هذا الجانب من الاجتهاد الذي يتمتع به شخصه عله لم يرضِ الفقيه التقليدي فظلوا يألبون عليه العامة ويبدو أن تحريمه الدخان وجد نفوسا يثيرها ذلك وقد أحدث هذا عداوات كان لها أثرها عليه حتى أنه اشتكى لرصيف مماثل في العلم والمناحي الروحية وهو الشيخ محمد عيسي سوار الذهب فرد عليه بأبيات فيها من التسلية والتسرية وتطيب الخاطر فقال:
والله لو كان بين الناس جبريلاً
لابــد فـيــه مــن قـــال و قــيـــلا
قــالوا في الله أضعافاً مضاعفة
تتــــلى إذا رتــل القرآن تـرتيــلا
وقــد قـالــوا له ابـن وصـاحبـة
إثماً وزوراً وتعطيـلا و تـبـــديلاً
انـظـر كلامهـم في الله خـالـقهم
فكيف إذا قيـــل و مـــا قيـــــــــلا
سلوكـه الصوفي:
مفتاح الحديث عن سلوك الشيخ ود الأرباب استلزم أن نستضيء بما للتجربة الصوفية من ماضٍ طويل. وما يمكن أن يؤخذ من مستخلصها من آداب قيمة التزم بها الشيوخ، فانه مع تباعد الأزمنة وتكاثف الغطاء على المعلومة الصحيحة، يصبح الأمر بحاجة إلى بذل الجهد طلباً للمعرفة بما كان للشيخ من بدايات وسلسلة عهدية. كان في طرفها القريب أستاذ أخـذ منه موصلاً له برجالها الثقة، إلا إن هذا تحيطه دائرة من الغيوم تجعل الوصول إليه صعباً، توشك أن تجعله في مصاف المستحيل. ولما كان الشيخ ادريس من كبار شيوخ الطـريق الصوفي في السودان، وكانت في تلك الحقبة الطريقة القادرية البهارية معلماً ومنهجاً سائداً في البلاد، وله علاقة مع بعض الشيوخ الذين يتقدمونه عمراً كالشيخ الضرير وغيره من الشيوخ المعاصرين، فهذا الترابط واستمراره دعا إلى البحث والقول: إنه لم يكن قطعاً ممن أخذ على تلاميذ الشيخ البهاري الكبار. قال ود ضيف: إنه أخذ من رجل يقال له عبد الكافي جاءه بالخطوة (1) وكان الحديث في ذلك من الشريف يوسف الهنـدي أكثر تفصيلاً، فقال: قدم عليه رجل من المغرب بالخطوة اسمه عبد الكافي أعطاه الطريقة عند شجرة السّرح التي كانت أمام العيلفون الي وقت قريب (1)، وترد مؤشرات أنه أخذ بيعة روحية من النبي صلوات الله عليه وسلم (2) مع ما ورد من روايات يؤخذ بها في المنحى الصوفي ويتعامل مع روحيتها بإيمان ويقين إلا أننا نذهب إلى التعامل العرفي الذي يقرِّب لنا مسافة الأبعاد الغائرة وهي الوثائق، وهذا يسمح بالقول: إنه تلقى القرآن والعلم من الشيخ البنداري والشيخ حمد ود زروق صاحب الصبابي، الأول يرجع إلى الشام مركز الطريقـة القادرية لوجود أحفاد الشيخ عبد القادر بها، والثاني أصله من اليمن التي انتشرت فيها الطريقة منذ حياة الشيخ عبد القادر رحمة الله، وقال اليافعي اليمني المتوفى سنة 768هـ: فإن شيوخ اليمن الأكابر والأصاغر يرجع أكثرهم في لِبس الخرقة إلى الشيخ الجيلاني، وقد قامت مدرسة صوفية كبيرة باليمن علي يـد الشيخ شرف الدين الجبرتي القـادري المتوفى سنة 806 هـ وتخرج من المدرسة العديـد من الشيوخ المميزيـن على رأسهم الفيروز أبادي صاحب القاموس- والشيخ عبد الكربم الجيلي(3)يلمس من قدوم الشيخين ومنحاهما الصوفي أنهما أتيا البلاد كغيرهم من رجـال التصوف لنشر الدين، وبث المنهج الصوفي الذي كان سمة رجال العلم في تلك العصور، ولعل هذا الطابع دعا إلى أخذ الشيخ إدريس التلقين من أحدهما، وعبارة الشيخ البنداري معه التي أوردها ود ضيف (4) تشير إلى التعامل الصوفي الواضح بين التلميذ والشيخ. هذا الانطباع الذهني تسنده نصوصٌ...قال الشيخ خوجلي: (أول من أوقد نار الشيخ عبد القادر الجيلي في السودان هو الشيخ إدريس) (1).يبدو انه قد كان للشيخ خوجلي معلومة وافرة عن صلة الشيخ إدريس وروابطه القادرية، فإلى جانب القرب الزمني عامل الصلة النوعية (صلة القربي أي النسب) هذا يجعله يعرف عنه الكثير، بإيقاد نار الجيلي الذي يعني إرشاداً علمياً وروحياً، فقد انتشرت طريقته وكان له مساره الخاص بذلاً وعطاء. ورأى أن يجيز نوّاباً استوثق من أحوالهم ومعارفهم وكان منهم:
الشيخ أبو القاسم راجل الكدوة، والشيخ عبد الرحمن ود طرف الحادو، والشيخ عبد الحليم بن سلطان الحادو، والشيخ عبد الله حسوبة المغربي، والشيخ محمد فايد الشريف، والشيخ مازوري التنقاري، والشيخ حمودة التنقاري، والشيخ صغيرون الشقلاوي، والشيخ صغيرون صاحب القوز وهو محمد بن سرحان، والشيخ محمد بن التنقاري الجعلي، والشيخ عركي بن الشيخ إدريس ود الأرباب، والشيخ بركات بن حمد بن الشيخ إدريس، والشيخ نعيم البطحاني، والشيخ سالم الفزاري، والشيخ مضوي العراقي، والشيخ عبده - المسمى بحر المالح، والشيخ إبراهيم العقلي والشيخ محمد الخيار(2)
الشيخ ود الأرباب في الحياة السودانية:
لعل البذل والعطاء الذين هما من مكارم النفس الإنسانية أدباً وتهذيباً صارا موصوفاً لحياة كبار الشيوخ الذين طهَرت نفوسهم من موصوف البخل والشّح، وليس الأمر في هذا يسر لابد من تطبيع بطول رياضة تطبع النفس علي الإنفاق في وجوه الخير، والحديث عن أستاذ يمتاز بالجوانب الخيرة في الحياة الاجتماعية وكان لها الباع الطويل في خدمة الدين واستمراريته في البلاد خمسة قرون حتى وصلنا موروثه.
وقد كان الكرم والبذل صفتان تحبهما النفس الإنسانية وتكره اضدادها ولذا فطن رجال التصوف لهذه المكرمة وجعلتها من الوسائل المهمة في خدمة الدين، إكرام الضيف وقضاء حوائج المسلمين فهي من الأشياء المقدمة علي غيرها من العبادات ولهم في ذلك عبارات (أقبح القبيح صوفي شحيح)، الكرم خصلة إبراهيمية لمنحاها أثر عظيم في حياة الناس وهذا جعلنا ننظر في شيخ التصوف ود الأرباب والمنحي الإكرامي في حياته قال ود ضيف واصفاً إنفاقه اليومي: (إن قداحته ستون قدحاً والكسرة مديدة) يسوطها الفقراء ومعهم الخدم ويذهب ود ضيف في وصفها بعباراتـه التي اعتـاد أن يجـري بها قلمـه (( دقاقه - نجيضه- وخميره- والماء عليها مثل الفلفل)) تارة تكون بالملاح وتارة تكون بالماء.
ويوصف ود ضيف أحوالاً نادرة من المد الإجتماعي في حياة الشيخ ود الأرباب فقال: يقدم حواره - الشيخ محمد فايد - في كل عام لزيارة الشيخ من البحر الأحمر وتحضر معه قبائل الشرق - عرب أكد وعرب التاكا مثل قبائل جهينة- وغيرهم، ينزلون خارج الحلة من كثرة الوافدين، والعشّام تأتي من جبل أم علي ومن أربجي ومن الشرق والغرب- والشيخ محمد فايد يدخل الناس طائفة طائفة بهداياهم من سمن ودقيق وقماش وإبل، وفي العشية كذلك- والعشام - أصحاب الحاجة - يُقسِم عليهم الشيخ كل ما دخل عليه- قال الشيخ صالح ود بانقا ما وصل للشيخ شيئا قط من أموال هذه الجلابة - إلا عشره محلقات ((فضيه)) ناولها إلى امرأة)).
أردنا بعرض هذه الصورة المتدفقة أريحيه وجمالاً عرض لحياة رجال التصوف في هذه البلاد من عصور مبكرة فقد بذلت النفس سخية كل ما تملك في قضاء حاجة الناس في هذه البلاد، وقد ضنت علي الخزانات أن تكن أو تحفظ شيئاً مما وصل إليها - بل كانت الخزانة هي بطن الجائع واليتيم والفقير والمسكين فقد ظلت حياة كبار الشيوخ في هذه البلاد مثالاً رائعاً تشبعت من فحوي نداوة سخائه النفوس منذ الماضي البعيد بأحوالها وحفظتها في غوائرها الإنسانية وتطبعت بأحوالها، وكان السودان بذلك هو دولة الإسلام الرائعة التي تحتفظ سماحتها الدينية بكل الديانات من غير ضير أو عصبية تضيق علي حياتهم، فكان من أختار الإسلام ديناً ومن هؤلاء فقد جذبته تلك السماحة والأريحية التي يستوي عندها الناس. فقد كانت حياة الشبخ ود الأرباب وأضرابه الشيوخ الأولياء خدمة للدين وتأميناً للبلاد من الفتن التي من طبيعتها أن تظهر بين الملوك ورجال الحكم بين حين وآخر تكاد قلاقلها تذهب بريح الدولة التي قامت وبنيت علي أنقاض وثنية وممالك مسيحية، والشيوخ مع هذا وذاك مثلوا مساحة أرض فيحاء نديّة تلتجئ إليها الحكام من كدر الحياة وضيق القصور - ولنا مثال: (أن الملك بادي ملك سنار جمع كبار الفنج - وقال لهم الشيخ إدريس شيخي وأبوي - داري من العسل إلي البصل (1) يقسمها له النصف) وامتنع الشيخ من ذلك عفة وصيانة للنفس.
فقد كان شخص الشيخ ود الأرباب المتصف بالإتزان والهدوء والأنات وكل أحواله عطاءً ثراً في تهدئة الإمور بين رجال الدولة حفاظاً علي الأرواح وتأميناً للبلاد، ولعّل الشيخ ود الأرباب وأضرابه الشيوخ لهم نظرة ثاقبة في المملكة السنّارية إنها دولة الإسلام - وهو شئ أوجب عليهم حفظها وأمنها من تيارات الفتن - وهذا أمر يجعلنا نقف مع حياة الشيوخ ونظرتهم للدولة والحفاظ عليها، لعّل أمر الدولة عندهم من خلال النظر في تعاملهم يختلف عن صور التعامل مع النظم التي تحكم ثم تزول بحكم العامل الزمني، ولعًل لمحات من هذا التعامل يوضح حياة شيخ التصوف ود الأرباب وتعاملها في الحياة الإجتماعية شعبياً ورسمياً.
وقد امتدت الحياة بالشيخ الحُجّة ود الأرباب إلى عمر شارف سبعة وأربعين ومائة من السنين، رفـع فيها أمر الدين عالياً، وكان نفحةً ربانيةً أسعد الله بها كثيراً من الناس، ثم قبضها إليه في عام 1060هـ. رحمه الله رحمة واسعة وأنعم عليه برضوانه، جزاء ما قـدم لأمـة الإسلام في السودان
(1)عن الخليفة على بركات ـ العيلفون.
(1)التصوف في السودان - ص 15. حسن الفاتح قريب الله.
(1) رأيتها في زيارتي لمسيد الشيخ ادريس عند خلفائه أثناء رحلتي في هذا البحث.
(2) طبقات ضيف ص 9- 11 – صديق ابراهيم.
(1) المصدر السابق ص11-12.
(1) مخوط تاج الزمان في أولياء السودان-خزانة مكتبة الشريف.
(2) الطبقات ص5-8 –صديق إبراهيم.
(3) فروع الطريقة القادرية بمصر ص 179- بتصرف.
(4) الطبقات ص 5-8 صديق ابراهيم.
(1) الطبقات ص 8-11.
(2) جميع هؤلاء الشيوخ مترجم لهم في طبقات ود ضيف الله. إلا أن مرجعنا في إسناد الشيخ إبراهيم العقلي هو مخطوط تاج الزمان للشريف الهندي. والشيخ محمد الخيار بن عمر تلميذ الشيخ إدريس وهو جد الشيخ أبو قرون والشيخ ود بدر وخال الشيخ عبد الرحمن الحادو. وهو مدفون في المقبرة التي أمام قبة الشيخ إدريس.
(1) من التي تزرع البصل أو يجني منها العسل وهي الجبال يقسم خيراتها له.
الاثنين، 26 ديسمبر 2011
الشيخ ادريس ود الارباب (ابوفركه)
بحث هذه المدونة الإلكترونية
الشكينيبة الشرافه والتاريخ
تقع مدينة الشكينيبة في السودان في الجزء الجنوبي الشرقي لمدينة المناقل على بعد تسع كيلو ترات منها . و لم تشتهر إلا بعد مجيء الشيخ عبد الباقي المكاشفي إليها في عام 1910م. تبلغ مساحتها حوالي 60.000 متر مربع ، و يقدر عدد سكانها حوالي 5.000 نسمة. و يعتمد أهالي المنطقة على الزراعة والرعي وعلى تجارة حول مسيد الشيخ المكاشفي.تعددت الأقوال في أصل الاسم فقيل اسم الشكينيبة من نشكو نوائبنا إلى الله - من قول الشيخ المكاشفي- وقيل من الشكنابه وهي قرعة اللبن عند أهل المنطقة. حط الشيخ المكاشفي رحاله بها وعمرها و حفر البئر وبنى المنازل. وفي هذه البقعة المباركة بنى مسجده وبنى حوله الخلاوى و أشعل نار القرآن و أوقد نار النفقة وشيد دور العلم وحفر الحفير، فأصبحت الشكينيبة مركز القاصدين ومورد الطالبين، و اجتمع فيها أعداد كثيرة من الأجناس المختلفة. فإذا جئت إليها واقتربت منها ترى الناس ينحدرون إليها من كل الجهات ما بين راجلين وراكبين على أشكال عديدة وقد امتلأت منهم مساحات كبيرة وإذا دخلت البلدة وجدت الخلاوي مزينة بطلاب القرآن و العلوم الشرعية ووجدت حلقات الذكر تعج بالذاكرين ووجدت دور الضيافة قد ملئت بأهل المقاصد المختلفة. و تعد الشكينيبة من أكبر الصروح الدينية والمعالم التاريخية التي ساهمت ومازالت تساهم في دفع حركة التعليم والإرشاد الديني في البلاد وقد ارتبط اسمها في أذهان جميع الناس باسم الشيخ عبد الباقي المكاشفي" رضي الله عنه " وما إن يذكر أسم الشكينيبة إلا ويذكر علاج الأمراض النفسية والعصبية والعقلية والروحية وغيرها من الأمراض المستعصية فقد جعل الله فيها سراً عظيماً ألا وهو الشيخ عبد الباقي المكاشفي و خلفاؤه الوارثون علومه. خلاوي القرآن: والحمد لله الذي أوقد نار تعليم القرآن بالشكينيبة وجعلها أرض مباركة طيبة وجعلها أرض ذكر ، و الشكر بعد الله للشيخ عبد الباقي المكاشفي الذي بنى الخلاوي وقام على أمرها والذي علم الناس كتاب الله وأرشدهم إلى سبيل الخير و الصلاح و جاء بالعلماء و الحفظة وكفل أمرهم . والحمد لله ثانياً إذ أنها مازالت إلى اليوم بفضل أبناء الشيخ وأحفاده الوارثين علومه قبلة الطلاب إذ يرسل الناس أبناءهم إليها ليحفظوا و يتعلموا كتاب الله تعالى. وليس هذا فحسب بل يزيد المشايخ على هذا كفالة اليتامى والمساكين وإرسالهم إلى المدارس والجامعات ليكملوا مسيرة تعليمهم. و خلاوي الشكينيبة واحدة من المعالم البارزة التي توحي إلى خصوصية البلدة ،ولقد تخرج منها رجال ومشايخ كثيرون ، وعند الحديث عن خلاوي الشكينيبة لابد من الإشارة إلى الخلاوي الأخرى التي قامت في مسائد و زاويا السادة المكاشفية و سارت على ذات الطريق. ألا جزاء الله الشيخ عبد الباقي المكاشفي وأبناءه وكل المشائخ القائمين على أمر الخلاوي و تحفيظ كتاب الله خير الجزاء الليالي و حلقات الذكر: عند الكلام عن الشكينيبة لابد من الكلام عن إحياء الليالي وإقامة حلقات الذكر كإحياء ليلتي الجمعة والاثنين من كل أسبوع في الشكينيبة وفي مسائد المكاشفية الأخرى. و في الشكينيبة خاصة تقام الاحتفالات الدينية الكبيرة التي يأتي إليها جميع أحباب ومريدي الشيخ من شتى أنحاء البلاد كعيدي الفطر والأضحية المباركين وليلة الإسراء والمعراج في السابع والعشرين من شهر رجب وتسمى " الرجبية" وهي من أكبر المناسبات بالمسيد و كذا الاحتفالات بمولد سيد البشرية" عليه أفضل الصلوات و أزكى التسليم " والاحتفال بليلة عاشوراء وليلة من النصف من شهر شعبان وكذا الحوليات وغيرها من المناسبات. و الذكر العام عند السادة المكاشفية ذكر جماعي بالاسم المفرد اسم الجلالة " الله الله " في شكل حلقة دائرية يتوسطها الرواة " الشعار" حاملي الدفوف " الطارات " يمدحون المدائح النبوية التي تحمل في طياتها صفات الرسول الكريم " صلى الله عليه وسلم" وتبين فضله و مكانته عظم رسالته التي حث الناس بالتمسك بآدابها وهديها، وهنالك أيضاً القصائد التوحيدية والقصائد القومية التي تروي قصص الأولياء و الصالحين الذاكرين المخلصين الذين جدوا في السير إلى مولاهم. ويقود الذكر شيخ ومن حوله المريدين والمحبين في شكل دائري ويسمون بـ " الاوتاد" لا يتعالى بعضهم على بعض ولو بأطراف الرؤوس كما جاء في نصائح الشيخ " رضي الله عنه " يترنحون شجناً ومحبة بالله الواحد الأحد العظيم ويتمايلون وجداً تمايلاً مصحوبا بالذكر " الله الله " أهزوجة روحانية تبعاً لإيقاعات النوبة والدفوف والكاسات ، تارة بإيقاع خفيف بضربات سريعة متلاحقة وتسمى " الحربية" أو " الخفيفة " وتارة بإيقاع ثقيل ضربة إثر ضربة وتسمى بالثقيل أو " الثقيلة" وهناك إيقاع آخر لا هو بالثقيل ولا هو بالخفيف ويسمى " بالشامية" أو المتلوتا." وبالذكر ومدح المصطفى ومدح أهل الله والإبحار فيهم تسمو أرواح الذكرين وتعلو حتى ترى من بعضهم حالا لا يدركه عامة الناس الحفير : و عند الكلام عن الشكينيبة و عن الشيخ عبد الباقي المكاشفي لابد من الكلام عن الحفير المباركة التي تقع شرق المسيد والتي قام بحفرها الشيخ ومريدوه ما بين عامي 1927 –1928م وتبلغ مساحتها مايقارب خمسة أفدنة تقريبا. تعتمد هذه الحفير المباركة على مياه الأمطار التي تصب وتتجمع فيها في فصل الخريف ، و تظل المياه بها في الغالب طوال أشهر السنة ومن ثم تتجدد في موسم الخريف ، ومن حكمة الله أن مياهها تظل خالية من كل التغيرات و من نواقل الأمراض وقد أكد ذلك بعثة معمل " إستاك" بالخرطوم وبعثة كلية الطب بجامعة الجزيرة الذين زاروها وفحصوا ماءها واكتشفوا أنها من أصح المياه الطبيعية . وهي تلعب دورا مهما في تخفيف عبء معاناة المياه في المنطقة وتشكل هذه الحفير معلما بارزا لكل الناس وهي إرث تاريخي تليد خلفه الشيخ أجراً وصدقةً جاريةً ، وفيها بركة وخير للناس ومنها طينة الحفير التي يتداوى بها الناس وهي إحدى كرامات الشيخ المكاشفي. و لا يقصد أحدا الشكينيبة إلا وكانت زيارة الحفير إحدى اهتماماته فهي مثار عجب ودهشة ، ولقد شهدنا فيها الكثير من العجائب و الغرائب. ومن المعالم والمنارات الواضحة في الشكينيبه القباب حيث أن بها ضريح الشيخ عبد الباقي المكاشفي رضي الله عنه ذاك الصرح الذي حوى الفخار و الأسرار و المعاني. وإلى جانبها تجد قبة الشيخ عبد الله وقبة الشيخ الطيب و قبة الشيخ الجيلي رضي الله عنهم وهي منارات يردها الزوار وينهلون من خيراتها ويشهدون أسرارها وهي توحي على صوفية البلدة و صلاح أهلها.

أرشيف المدونة الإلكترونية
من أنا
- محمد مصطفى عبدالباقى عامر المكاشفى
- السودان, الشكينيبه, Sudan
- إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي صل عليه الله ُ في الايات ِ وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات(والله وبالله وتالله لا يجتمع حب إله وحب ذاك درهم في قلب ذي اسراري إن الدراهم مكتوب عليها أذا أحببت درهما أبغضك الجباري لاتنكرن لقولي في كتابتها تالله لايعرفها الا ذا أفكاري(الشيخ عبدالباقى المكاشفى)