مـولـده ونشأتـه وحياتـه:
هو الشيخ إبراهيم بن الفكي الأمين الملقب بالكباشي بن الفكي علي المكني بود سهول، وهو ينتمي إلى قبيلة العركيين، ويلتحق نسب قبيلتهم بالإمام الحسين بن الإمام علي رضي الله عنهما( ).
ولد بالجـزيرة بقرية أبو قميص شرق معتوق بالقرب من المناقل في عام 1201هـ( ). أما صفته فقد كان (مربوع القامة ليس بالطويل ولا بالقصير أخضر اللون( )، بين أسنانه فرجة (فلجة) وتوجـد شامة كبيرة على كتفه الأيمن وأخرى على كتفه الأيسر). وقد وصفه الشاعر ود نفيسة إبراهيم ود أحمد قائلاً( ):
أفلج وأخضر في فنونو ندر
بين القامتين فوق الشامتين الكباشي الفي السابعة سدر
فـرق الهامـــتين نقط التاتين
قرأ الشيخ الكباشي كتاب الله على الفقيه ود الفادني بقريـة ود الفادني ثم جوده على الفقيه (كليَ) بقرية طيبة العركيين. ودرس العلم في مدرسة الشيخ إبراهيم ود عيسي صاحب المسيد، ثم أخذ السلوك الصوفي على الشيخ طه الأبيض البطحاني( ). قضى الشيخ الكباشي الشطر الأول من حياته ونذراً من الثاني بالجزيرة ثم رحل إلى شمال الخرطوم بإشارة من أحد شيوخ الطريقة لنشر تعاليم الإسلام وتسليك الطريق الصوفي، فنزل أولاً بغابة ود أبو حليمة ولما سمع به شيوخ العبدلاب، جاء إليه أحد رجال المشيخة ولما اطمأن من حاله، أعطاه شيوخ العبدلاب الغابة التي عرفت فيما بعد باسم الفرع، وقد كانت هذه الغابة مليئة بالهوام والثعابين، فأبلغ أهـل المنطقة الشيخ الكباشي بعدم صلاحيتها للسكن، فأمر الشيخ الكباشي تلميذه أبزيـد الهلالي أن يذهب ويبيت فيها بالقرب من النيل، وبعد طلوع الفجر يـؤذن ويصلي الصبح فيها ثم ينادي في الهوام أن ترحل من المنطقة، وقد رأى الناس بعد أن طلع الصبح أسراب الهوام راحلة، فسجل له شيوخ العبدلاب هذه الأرض من النيل إلى قرية حيطة باسمه( ).
قام الشيخ إبراهيم الكباشي وتلاميذه بقطع الأشجار، وتنظيف الحشائش من الأرض التي اختارها لمسيده، وبنى عليها خلوة القرآن الكريم وخلاوي الطلبة والضيوف، فتوافد إليه الناس من مختلف القرى والمناطق طلباً للقرآن والعلم والسلوك، فحفظ القرآن في خلوته كثير من الطلاب الذين أصبحوا فيما بعد منارات للعلم وشيوخاً يقتدي بهم. ومن مشاهير الشيوخ الذين حفظوا فى خلوته القرآن، الشيخ محمد أبو صالح( )، والشيخ الأمين ود بلة في خلوته أخذ العلم عليه بعد حفظه القرآن، وروي أنه صحبه سبع سنين بعد ذلك ( )0
الشيخ الكباشي من كبار الأولياء الشيوخ، فكانت سجادته القادرية منبر دعوة إلى الله استقر ببذله وجهاده الدين في النفوس إيماناً ويقيناً بذل أقصى ما يمكن أن يبذله إنسان من مخزون طاقته الإنسانية، مجاهدة للنفس ثم جهاداً لتوصيل كلمة الدين قرآناً وعلماً وسلوكاً تربوياً، بهذا المثلث كانت انطلاقته الكبرى في الحياة بذلاً وعطاء من غير تخلف عن ميدان، فحققت المعاني الإرشادية والإصلاحية. وقدرت مشيخة الكباشي العظيمة أن تكون معلماً أصولياً يرفع على جنبي الطريق هادياً إلى الله، عصمت دعوته نفوس من هرع إليه من الضلال والفتن وشمم النحل الفاسدة، ومعلوماً يقيناً أن مهمة الولي في الحياة وجوداً رسالياً عالياً. دلالـة على الله تعالى - بكل ما يستوجب ذلك من مقال وحال يدفع ويدافع بما يستلزم من وسائل نظرية وعملية، وهذا شيء كان لابد أن يحققه الشيخ الكباشي وأضرابه الأولياء الشيوخ، وليست كلمة تقال في الولي والتعريف بحقيقته أعظم من (أنه معلم يستدل بوجوده إلى الله تعالى) - ولهذا البعد وعمقه فكانت الولاية فيمن خص الله تعالى - وهي بالطبع لا تعني مسمى وظيفياً أو لقباً لإنسان من هيئة اجتماعية أو سياسية، فإنها تبعد عن هذا وصفاً ومعنى، والولاية بمعيار المشاهدة والسماع مجاهدة للنفس تكاد أن تفوق كل تصور وتخيّل، ثم هي جهاد لا تولي من ميدانه وحلبة صراعه، وهي مع هذا تعطي وتمنح وفق مقاييس إلهية، ولا تخضع لجانب العوامل الكسبية مع شرعيتها، بكل هذه المناحي وما تحوي وتكنُّ من عظمة، قدر أن يكون الولي الأصل في الدعـوة إلى الله والإرشاد، ولا تنصرف ماهيتها إلى غيره – بحكم الوراثة للنبوة (العلماء ورثة الانبياء …الخ) – وأصلاً كذلك في الإرشاد: {ومَن يُضلِل فَلَن تَجِدَ لهُ وَليَّاً مُرشِداً}[الكهف:17]، إن المعنى الإرشادي لن يكون متحققاً إلا في ذوات الأولياء لعلّ ذلك لطهر القلوب وبراءتها من الأغراض التي تقصد أمراً دنيوياً: {ألا لِلَّه الدينُ الخَالِصُ}[الزمر:3]، فالدعوة إلى الله والإرشاد فإن يكن سبيله نفوس ظلمانية فهذا لا يكون إلا هلاكاً وتردياً: {ومَن لَّم يجعلِ اللهُ لهُ نُوراً فَمَا لَه مِن نُّور}[النور:40] ويدعو صاحب النبوة صلوات الله عليه (اللهم اجعل في قلبي نوراً وفي سمعي نوراً وفي بصري نوراً- واجعلني نوراً... الخ)، فهذا الإشعاع لا يتحقق في الذوات الإنسانية إلا بالإرشاد والاتباع، ولما كان الولي واسطة في نقل الدين الصحيح إلى النفوس، وجب الأخـذ عنه مفهومه عقائـداً وسلـوكاً، وهذا ألـزم أن لا يتعرض إلى مرتبة المشيخة كل أحد إلا بعد الشهادة له بالأحقية. فقال الشيخ محمد بـدر رحمه الله (من تعرض للمشيخة من غير إذن فهو مفتون ومغرور ومغبون يخشى عليه من سوء الخاتمة وذلك لما فيه من الجرأة) بمفهوم الشيوخ المعرفـة- إن الإرشاد والدعوة إلى الله تعالى مرتبة إنابة وخلافة عن صاحب النبوة صلوات الله عليه وسلامه-. وبهذا المعيار وجب التأدب والحساب لأمر تصدرها لأن في الأمر خطورة، وخاصة إذا كان الأمر دعوى نفس وأغراض جاه وسلطان، من غير نظرة للتحقيق في هذا المقام، ويقول ود بدر- في المرشد الحقيقي: (جد صدقاً تجد مرشداً) والمرشد أو الشيخ هو ما قال عنه: (هو الذي أخرجك من سجن الهوى ودخل بك علي المولى- وهو الذي لا يزال يجلو مـرآة قلبك حتى تجلت فيه أنوار ربك، نهض بك إليه- فنهضت معه- وسار بك حتى وصلت، ولا زال محاذياً لك حتى يلقيك بين يديه - فزج بك في نور الحضرة فقال ها أنت وربك )( ).
فالحديث عن الشيخ الكباشي والتعريف بولايته قاد إلى حديث خارج المنحى، إلا أن ذلك قصد أن يكون توضيحاً للفروق بين الأولياء الشيوخ وبين غيرهم الذين نصبوا أنفسهم للإرشاد تنصيباً شيطانياً.
قال الشيخ عبد العزيز الدباغ رحمه الله في حديثه عن الشيوخ الأولياء والإرشاد، بأن المقصود من التربية هو تصفية الـذات وتطهيرها من رعوناتها، وذلك بإزالة الظلام وقطع علائق الباطل عن وجهتها )( )، ولعل هذا أمراً قد قل وجود أهله فهو (كعنقاء مغرب) أمثالاً. فقد زلف الشيوخ الأولياء وكثرت الدعـاوى والأدعياء، فلهذه الفروق وتباعد شطّاها فجري الحديث عن شيوخ الولاية الذين ضمتهم دفّتا السفر أمثالاً رمز إليهم بالكباشي وأضرابه- فالتعريف بأولئك الذين هـدى الله - وجوباً يقتضيه الأمر من الإنسان مع من يكون في حياته: {يَا أيُّها الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وكُونُوا مع الصَّادِقين}[التوبة:119]، {أُولَئِك الَّذين هدى اللهُ فَبِهُداهُم اقتده}[الأنعام:90] وليس أبلغ من هذا دلالة و من التعريف بالشيوخ الأولياء والأمر بالكّون معهم والهداية بهم تأسياً وقدوة حالاً ومقالاً، وثمّ فليكن الحديث عن الشيخ الكباشي رضي الله عنه عن أحوال أوجبت الحديث عنه، بعد توسع نشاطه الصوفي وتدفق الناس عليه، رأى الشيخ الكباشي أن يجيز بعض التلاميذ الذين رأى فيهم الأهلية للقيام بمهام الطريق، كل في وسطه وبيئته التي يقطنها. ومن أولئك الرجال: الشيخ عوض الكريم ود أبو جنة، الشيخ محمد ود عدلان، الشيخ عبد الله ود عبد القادر، الشيخ محمد ود عثمان، الشيخ أحمد ود محمود، الشيخ مرزوق، الشيخ علي أبو شمال، الشيخ أبزيد الهلالي( )، الشيخ بشير الحمدي، الشيخ البشير عبد الله الاحيمر، الشيخ عوض الله والشيخ الزاكي والشيخ حاج حمـد ود شوين جـد الشويناب بالمايقوما.
الكباشي ومغارات التعبـد:
جرت حياة المتصوفة الذين يفرون في بدء طريقهم بعيداً عن الناس، اختلاءً بأنفسهم للتأمل والعبادة، ومن أولئك الشيخ الكباشي الذي إتخذ بعض الجبال مكاناً لخلوته، فألف جبل (الفـريد) الذي يعرف بجبل الكباشي، وهو يقع شرق قرية الكباشي الحالية وأيضاً جبل (السِليت). ويبدو أن الشيخ الكباشي مع تزاحم الناس عليه، كان يفرض علي نفسه دورات روحيـة يخلو فيها مع ربه، وقد ابتنى أيضاً غاراً داخل المسيد، أمام مسجد الصلاة. وهو عبارة عن سرداب مظلم تحت الأرض مساحته تقريباً تسعة أمتار مربعة وارتفاعه أقل من ذلك. والداخـل إليه يلج عبر مدرج من لبن الطوب (الآجر) إلى الأسفل، فلا يكاد يتبين شيئاً من شدة الظلام حتى يجلس قليلاً فيأخـذ في التعود على الإضاءة وليس بالغار منفذ للهواء والتنفس، ولعل السر في إحكام المغارات بهذه الكيفية عند أهل المجاهدات هو محاولة إغلاق الحواس حتى لا يدخل على الإنسان ما يشوش عليه صفوه الروحي. ونستطيع أن نقدر حجم المجاهدات التي كان يرتادها الشيخ الكباشي رحمه الله.
سياحـة روحيـة:
الـروح من المسائل الغيبية التي شغف الإنسان بمحاولة معرفة شيء من أمرها وعالمها المجهول، ولكن الكثرة من علماء الدين أضربوا عن الخوض في هذا العالم، ورأوه من المسارات التي لا تجدي فيها التكهنات العقلية ولا التنبؤات التي لا تقوم علي أساس، فقد يؤتى الإنسان قدراً كبيراً من العلم والإلهامات، ولكن يظل الأمر غير مأمون العواقب. وقد تحدث الراسخون من أصحاب الفقه الروحي عن المنحى، وأشاروا إلى خطورته وحذروا من الوقوف حيال ما قد يتراءى للإنسان من غير علم يقيني يؤكد ماهيته، وذلك لما يمكن أن يحدث من تلبيس بسبب أرواح ماردة. ومع إفاضتهم في التحذير من الالتباس، إلا أنهم رأوا أن باب الفتوحات والإلهامات غير مغلق أمام الراسخين من أهل الولايـة، وهناك فرق كبير بين ما يحصل للأولياء وغيرهم من الكهان وأدعياء الباطل. فالولي أمّن الله مساره الروحي، وحفظه من الإنزلاق والإفتتان، وذلك بما منّ عليه من بشرى عاجلة في الحياة الدنيا.
قال تعالى:{لَهُمُ البشرى في الحَيَاةِ الدُّنْيا وفي الأَخِرَةِ لاَ تَبدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الفَوزُ العَظِيمُ}[يونس:64]، سابق البشرى في الحياة الدنيا وما هو مدخر في الحياة الآخرة كلاهما من الله سبحانه وتعالى، الذي تستوي عنده الدنيا والآخـرة في العطاء والمنع. والولي مع هذا لا يهـدأ له حال ويظل خائفاً وجلاً، فالخوف والوجـل والمراقبة والمحاسبة للنفس كلها صفات للعبودية، التي هي أعلى مقامات الولاية والتفاني في ذات المعبود جل شأنه.
وهؤلاء الأولياء المتمكنون المحفوظون لا يمكن أن يلتبس عليهم في هذه الإمور الروحية التي هي مرحلة قطعوها وخبروا دروبها دون الوقوف عندها، لذلك فإنهم يتحدثون حديث العارف الخبير المالك لزمام قوله وفكره، مهما كان في حديثهم من معاني يصعب على الأفهام والعقول إدراكها، ومن تلك الأحاديث ما سجلته لنا يد الشيخ الكباشي رضي الله عنه حيث خط:
(في ليلة الأحد ستة وعشرين جمادى الآخرة سنة ألف ومائتين وثمانين _1280هـ) تفكرت في عظمة الله جل جلاله، فرأيت عجائب وغرائب تحير عقول الناس، ولا يحصر تلك العظمة إلا الله، رأيت جمالاً محمولة( ) كالسطوح العالية، فرأيت عجائب وغرائب فهي من عظمة الله تعالى. الجمال اطلعتُ علي عددها فوجدت عدلة محمولة علي جمل وحـدها فوجدت فيها علوم الأولين والآخرين، بداءً أصول كل شيء لا يعلمه إلا الله. ولما فتح لي ذلك رأيت فيها الأنبياء وهم مائة ألف وأربع وعشرون ألفاً، ورأيت شهوراً وأياماً يتبع بعضها بعضاً، ورأيت شمساً تطلع وتغيب وقمراً منيراً من أول الشهر إلى آخره... ورأيت… ورأيت…)( ) . ويصف الشيخ مشاهد روحية تفصيلية كثيرة وبعدها يقول: (وراحت روحي فما أدري أين كانت، أتاني الملك ميكائيل فوق العـدلة فطلبت منه أن يخبرني بتلك العدلة فقال: لا باب لي فيها ولا اطلعت عليها، فقلت له: كيف أرجع، كيف أرجع يا حبيبي من سياحتي هذه؟ فقال لي اطلب إسرافيل، ثم وقفت بعد مدة قليلة كرفع البصر أمام إسرافيل فقلت له: كيف ذلك يا حبيبي؟ فقال لا علم لي بذلك ولا اطلعت عليه. سرت إلى عزرائيل فقال لي: لم أستحضر ذلك، ثم وقفت بين يـدي جبرائيل فقال لي: لا علم لي بذلك. ثم ذهبت روحي فلا أعلم حتى وقفت بين يدي حبيبي محمد(). فلما حضرت بعد ذلك جللت وعظمت وكبرت وقلت الحمد لله الذي أوقفني بين يـدي حبيبي محمد(). فرحب بي الحبيب() فسألته عن ذلك الأمر. فقال شفيع الأولين والآخرين: هذه هي العظمة، قال تعالى: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ}[المدثر:31]. وقال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى المُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً}[آل عمران:164]. فهو شيء لا يحصى ولا يعـد، فهو أرض وسموات فيها ما تشتهي الأنفس وتلـذ به الأعين، وغير السموات السبع هذا هو: عظمته جل وعلا( ).
نود لو نجد سبيلاً لشرح وقتها ويومها وفهم هذه المشاهدات الروحية، التي تفضل بتسجيلها الشيخ الكباشي وأرخ ، ومع بعد الشقة وصعوبة الأمـر، إلا أنه يجوز التعبير عن هذا الحدث علي أنه (ارتقاء روحي) استشرف أثناءه الشيخ علي سراً من أسرار العظمة الإلهية التي لا يدرك كنهها ولا يسبر غورها، وما اطلع عليه الشيخ الكباشي وغيره من الأولياء، ما هو إلا ذرة من فسيح ما تجلى الله به على أنبيائه ورسله عليهم السلام. والـولي إنما ينال هذا وغيره من الفتوحات بحكم الإيمان والاتباع للرسول ().والشيخ الكباشي رضي الله عنه يصف سياحته بأنها روحية، والروح لا تدرك ولا تضبط مساربها ومساراتها، لأنها من أمـر الله لذلك كان يعبر بقوله: راحت روحي فما أدري أين كانت، أو ذهبت روحي فلا أعلم إلى أين. هذه السياحة توقفنا على حدث روحي مهم جداً، وهو التقاؤه بالملائكة الأربعة الذين كانوا يفيدونه بعدم العلم عند السؤال عما في العدلة، وصدق الله العظيم حيث يقول تعالى:{وَلاَيُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاءَ}[البقرة:255]. ثم يقف به الأمر أخيراً بين يدي النبي() ليأخذ منه تفسير ما رأى ، ولا ريب أن في أخذ العلوم والمعارف الروحية من النبي()، عن طريق الكشف المباشر أو الرؤى الروحية، تأمين للمسار الروحي الملهم من أن تتسرب إليه واردات شيطانية، وفي هذا كان الحفظ والصون لصاحب الكرامة، تمتد سياحة الشيخ الكباشي الروحية فيقول: (جاء الحق والباطل يتسابقان فيؤخر أحدهما الآخر فسبق الباطل الحق، فأردت أن أستفيد منه فجاء جبريل عليه السلام فأخر الباطل وقدم الحق الذي لا عقوبة فيه. ففرحت وظننت أني من الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون لكون جبريل صحبني). ذكر أن البـاطل تقدم على الحق وذلك لسوء الباطل وسوء أدب أهله في كل زمان ومكان، إذ يحاولون دائماً التقدم والعلو على أهل الحق والعلم، إن الشيخ في مشاهدته وصعوده الروحي أتاه جبريل – وهو ملك الهامة الجالس على لمة القلب اليمنى – وأعانه بدفعة روحية قدمت الحق على الباطل. رحم الله الشيخ إبراهيم الكباشي ونفعنا ببركته آمين.
مؤلفاتـه وشـعره:
كان للشيخ إبراهيم الكباشي الكثير من المؤلفات في مختلف المواضيع، إلا أن معظمها قد ضاع وفقد، ولم يُعثَر إلا على أجزاء ضئيلة منها( ) . ومن تلك الكتب والمخطوطات:
* كتاب السـير إلى رب العـالمين. تحدث فيه عن أخلاق المتصوفة وكيفية السير إلى الله.
* الذوق يوضح فيه خفايا النفس والقلب وما يتعلق بهما من أمراض.
* مقعد الصديقين في أخلاق المتصوفة.
* بيان المشهد الإلهي يوضح فيه صفات أهل الكمال.
* العِدلة.
* التعبير في ذكر البصير.
* المهدي المنتظر.
* انشقاق القمر تحدث فيه عن معجزة انشقاق القمر للنبي ().
وله مؤلفات تعبدية من أحزاب وصلوات نبوية منها:
حزب الحمد، حزب الجلال، حزب السلام، حزب الأنوار، فتح الفتوح، سر الأسرار وصلاة الإرشاد.
وله أيضاً مؤلفات شعرية في مدح المصطفى وقصائد صوفية في ذكر أحوال الأولياء والصديقين وحال السير والسلوك.
ومن قصائده التي تناول فيها سيرة الصالحين أهل السلوك( ):
وحـالُم كبازٍ في الهوى عـن
وقـلــوبُم بنـور الله أمـتلن
هم الأقطاب والأوتاد أخى اسمعن
هم سادات الخلائق أخى اخبرن
لي أقـــوالُــم أفـــعـالُــم يصـدقـــن لما جـن الليل قامـو رجالا
وعيونم جفت المنام لله طوعـاً
هـم بحـور العـلم والهـدى
هم شـيوخ التربى والــتربى
هـم قاموا بالحدود والأمــر نهـيا
ويوصي الشيخ المريد بأن يتحلى بفضائل الأعمال، ويوجب عليه الالتزام بها في مســــاره ومسلكه لأنه عاهد أستاذه على ذلك، عملاً بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالعُقُودِ}[المائدة:1]، فيقول الشيخ:
عين الفتى توري ما في الضمير ظاهرن
يُسأل أن كان في شيخه الخير يذكرن ويحـذر عن الوسـواس أن يغـيرن
ويمـثلــه بالثقـات لا يتأمـلـن
ويسـهـر سـهـراً عـظيماً تالياً
عـليه ويكـون للحـق تابعــن
لسان الحـال ينطق لصاحـبه
تلميذ القوم يصنت وليس يسأل
ويكـون منضبطاً ومـنذجـراً
ويظـن الخـير فـيه قطـعـاً
ويواظب علي الذي عـاهد بـه
ويبكي علي نفسه قبل أن يبكو
انتقل الكباشي إلى العالم الآخر:
بعد عمر يربو على الثمانين وخمس، اختارته المنية إلى الرحاب الربانية في سنة ست وثمانين ومائتين وألف للهجرة. فاختتمت بذلك سنوات طويلة، كان قد أنفقها بين خلوة القرآن وحلق العلم والإرشاد والتسليك. فنمت بهذا القطب الحياة العلمية والروحية في تلك المناطق التي كانت قبله تفتقر إلى أبسط أسس المعرفة بالدين. فقد دفن الجثمان الطاهر بين جدران مزاره بقريته الفرع، عليه رحمات الله.