
سيدي مالك بن دينار

انه الولاء المطلق للحق تبارك وتعالى الذي خص به صفوته من خليقته

من افذاذ اولئك الائمة الاخيار والصوفية الابرار قطب سماء العرفان وولي افنى ذاته في محبة الرحمن .
انه الامام العابد والصوفي الزاهد والرباني الساجد , صاحب الامداد والنور : سيدي ابو يحيى مالك بن دينار

فكانت حكمته غذاء القلوب وسلوكه ضياء النفوس ومنهاجه اقتفاء الاثر المحمدي المنير . فلم تحد قدمه عن الطريق حتى وصل الى مولاه وترك وراءه اثره ليسلك على دربه من تعشق الذروة وامتلك قياد نفسه ليهب عمره لله كما فعل .
وحديث المؤرخين واصحاب الطبقات عن الامام مالك بن دينار لم يتناول تاريخه الشخصي الا شذرات قليلة سرعان ما ينتقل منها الى سرد مأثوراته ومناقبه واشاراته التي تصور منهجه الروحي واتجاهه الصوفي .
ففي ترجمته يذكر صاحب وفيات الاعيان انه ( من موالي بني اسامة بن لؤي القرشي كان عالما زاهدا كثير الورع قنوعا لا ياكل الا من كسبه وكان يكتب المصاحف بالاجرة .. ) وقد ذكر المؤرخون – منهم ابن خلكان – ان سيدي مالكا قد توفي بالبصرة سنة احدى وثلاثين ومائة هجرية .
وقد ادرك


وقد أخرج له البخاري في صحيحه واخرج له الامام حمد وروى عنه الثقات من المحدثين .
وهكذا نجد ان سيدي مالكا قد عاش في القرنين الاولين للاسلام حيث لا يزال عبير النبوة متضوعا في الارجاء لقرب العهد باشراق شمس النبوة , فلقي من لقي سيد الخلق


فاشرفوا فوجا بعد فوج فاذاانا بابنتي التي ماتت فنطرت الي وقالت : ابي والله ثم وثبت في كفة من نور كرمية السهم حتى صارت عندي ومدت يدها الشمال الى يدي اليمين فتعلقت بها ومدت يدها اليمين الى التنين فولى هاربا ثم أجلستني وقعدت في حجري وضربت يدها اليمنى الى لحيتي وقالت يا ابت


قلت : فأخبريني عن التنين الذي اراد ان يهلكني ؟
قالت: ذاك عملك السيء قويته فاراد اغراقك في نار الجحيم .
قلت : فالشيخ ؟
قالت : عملك الصالح اضعفته حتى لم يكن له طاقة بعملك السيء .
فقلت : يا بنية : ما تفعلون في هذا الجبل ؟
قالت : اطفال المسلمين اسكنوافيه الى قيام الساعة ننتظركم تقدمون علينا فنشفع لكم قال مالك رحمه الله ( فانتبهت فزعا مرعوبا فكسرت الات المخالفة ,وعقدت مع الله

وكانت البداية النورانية وبدأ التحول الروحي ياخذ مجراه على اثر هذا النداء الالهي الذي سيقت من اجله تلك الواقعة :



ولكن اتصال الشعاع كان في حين معلوم وما كانت هذه الرؤيا التي رآها سيدي مالك الا ايذانا بالولاية لله والفرار الى الله وتخلية القلب لله تخلية يتبعها سجود القلب لله حيث قمة مراتب الولاية .
وذاق سيدي مالك منذ ذلك الحين حلاوة العبودية لله وتألم على ما مضى من العمر سدى ولكن العناية ادخرت ما هو فوق مطمح الامال فجاءه الفتح الالهي وصعد الى علياء منازل الابرار والمقربين .
واذا ما تساءلنا عن الجانب السلوكي عند العارف ابن دينار لوقفنا على قمة قلما تجد نظيرا لها في الامة .
فلقد رفع لواء الجهد الاكبر- جهاد النفس- وشهر سيف المجاهدة على نفسه في طاعة الله فسمعه احد اصحابه وهويقول : ( يقولون الجهاد انا من نفسي في جهاد ) وسمعه اخر يقول : ( قال رجل من اصحاب النبي

ويبغ التقلل والزهد مداه عند سيدي مالك ليروي صاحب الحلية ايضا عن ابي بلج قال : ( كان أدم مالك بن دينار كل سنة ملحا بفلسين )واما عن متاع بيته, فيقول سيدي عبد الوهاب الشعراني




ولقد كان امر الاخرة هو الشغل الشاغل لسيدي مالك .
فقد كان يقوم في محرابه ويقول : ( يا رب قد عرفت ساكن الجنة وساكن النار ففي اي الدارين مالك ؟ ثم يبكي ).
ولقد كان نداء العبودية لله يدوي في اعماق سيدي مالك بكل حرارة ووجد حتى لقد قال فيما رواه الامام الشعراني

وكانت عباداته في جوف الليل سرا بينه وبين مولاه يناجيه بقلبه ومشاعره ويسر اليه بحديثه نجواه .
وروى ابو نعيم عن المغيرة بن حبيب – ختن سيدي مالك – يقول : ( يموت مالك ابن دينار وانا معه في الدار لا ادري ما عمله – قال- فصليت معه العشاء الاخرة ثم جئت فلبست قطيفة في اطول ما يكون الليل – قال – وجاء مالك فقرب رغيفه فاكل ثم قام الى اخر الصلاة فاستفتح ثم اخذ بلحيته فجعل يقول : اذا جمعت الاولين والاخرين فحرم شيبة مالك بن دينار على النار , فوالله ما زال كذلك حتى غلبتني عين ثم انتبهت فاذا هو على تلك الحال يقدم رجلا ويؤخر رجلا ويقول يا رب اذا جمعت الاولين والاخرين فحرم شيبة مالك بن دينار على النار فما زال كذلك حتى طلع الفجر ) انه في مقام الخوف يناجي ربه من شدة خشيته مشفقا على نفسه, ولقد سمعه بعض اصحابه يوما وهو يقول : ( لو استطعت ان لا انام لم انم مخافة ان ينزل العذاب وانا نائم ولو وجدت اعوانا لفرقتهم ينادون في سائر الدنيا كلها يا ايها الناس .. النار ... النار ...)
وما ان يعطي مقام الخوف حقه حتى يعود الى شاطئ الرجا , حتى لقد رؤي في النوم بعد وفاته فقيل له : ماذا قدمت به على الله ؟
قال: ( قدمت بذنوب كثيرة محاها حسن الظن بالله تعالى ) وحسن الظن بالله تعالى هو قمة الرجاء .
وفي كل من مقامي الخوف والرجاء كان سيدي مالك لا يفتر عن ذكر الله كان يقتات منه وكان يطرب لسماع القرآن الكريم ويقول لاصحابه ( ان الصديقين اذا قرء عليهم القرآن طربت قلوبهم الى الاخرة – ثم يقول :- خذوا فيقرأ ويقول : اسمعوا الى قول الصادق من فوق عرشه )
ولقد كان الذكر عنده مقياسا لمحبة الله

ان حب الله قد ملك عليه فؤاده وغمر حواسه ومشاعره ولقد كان مع المحبين – في بدء امره – وقائع ينشي القلب من ذكرها:
فمن تلك الوقائع ما ذكره الامام أبوطالب المكي قائلا : (وحكى عن مالك ابن دينار – وهو مما يليق بهذا الفصل – قال خرجت من البصرة اريد الحج الى بيت الله الحرام فلما بلغت مكة استحليت الطواف ذات ليلة .
فبينما ان اطوف بالكعبة وانا متلذذ بحلاة الخلوة فلما دنا قرب الفجر رأيت جارية تطوف أمامي وهي تقول : سيدي ومولاي : بسكري البارحة وخماري الساعة الا غفرت لي .فقلت: يا جارية ما هذا الكلام في مثل هذا المقام ؟.
فقالت : يا مالك ما قلت الا ما يليق بحالي , وهذه كلمة تصلح لي ولا تصلح لك.
فقلت : واعجباه كانت المسألة واحدة فصارت اثنتين اخبريني كيف عرف اني مالك بن دينار ؟ وكيف صلحت الكلمة لك ولم تصلح لي.
فقالت : اما معرفتي بك فان روحي وروحك التقيا تحت عرش الجبار , فشم روحي روحك فعرفتك حين رأيتك ,, واما قولي ان هذه كلمة تصلح لي ولا تصلح لك فذاك لاني احب الله وانت تريد الله فما أبعد ما بينهما .
فأما ما يعجبك من قولي فوالله ما قلت كذبا ., شرب بكأس المحبة مسرورة فاصبحت في ميدان الشوق مخمورة ثم ولت وهي تقل :
فمنك سكري لا من الكاس
قطعتني عن كل مستوحش
افديك بالعينين والرأس .
وثمة واقعة اخرى لسيدي مالك مع احد المحبين الالهيين يرويها عنه الامام المناوي

فقلت : أما تستحي , تقول بحبك لي ؟ وما يدريك انه يحبك ؟ قال : يا من اشتغل عنه بنفسه ؟ اين كنت انا حين خصني بتوحيده ومعرفته ؟ أتراه بدأني بذلك الا لمحبته لي ؟ ثم بادر يسعى.
فقلت : أرفق ..
فقال :انا مملوك على طاعة مالكي الصغير , فسالت عن مالكه ,
فقلت : بعنيه .
فقال : هذا غلام مشئوم لا همة له الا البكاء .
قلت : ولذا اريده فاشتريته,
فقال : لماذا اشتريتني فقلت لاخدمك ,
فدخل مسجدا فصلى , وقال هذا سر كان بيني وبينك اظهرته لمخلوق , أقسمت عليك الا قبضتني فاذا هو ميت )
لقد كانت تلك الوقائع تعمق في قلب سيدي مالك مشاعر التعلق بالله وتفرغ فيه من دنان المحبة كئوسا مثملات , وظل ينهل من تلك الدنان المعتقة حتى ارتوى وغمر شعاعها قلبه وانزاحت الاستار وتكشفت له الحقائق العلوية التي لا تنجلي الا للصفوة وصار ينعم في الحياة باحلى ما في الحياة وهو معرفة الله تعالى.
استمع اليه وهو يقول : ( خرج أهل الدنيا من الدنيا ولم يذوقوا اطيب شيء فيها .
قالوا : وما هو يا ابا يحيى ؟
قال : معرفةالله تعالى ) .
انه لم يحكم الا عن ذوق ولم يخبرالا عن عيان !
ولقد روى عنه سيدي ابوطالب المكي في (علم القلوب) انه قال : ( ان في الدنيا جنة من وجدها لم يشتق معها شيئا.
قيل وما هي ؟
قال : معرفة الله وانشد في ذلك :-
وضياء وبهجة وسرور
وعلى العارفين ايضا بهاء
وعليهم من الجلال نور
فهنيئا لمن عرفك إلهي
هو والله دهره مسرور
انها المعرفة بالله التي لا ينالها الا من والاه واصطفاه وانسه واجتباه فاستوحش من المخلوقين لانه مع الخالق دائما , فهو يقول : ( من لم يأنس بمحادثة لله عن محادثة المخلوق فقد قل عمله وعمى قلبه ضيع عمره ) .
وبوسعنا ان نتعرف – بعض التعرف- على مقام العارف سيدي مالك من خلال ما رواه الامام ابو نعيم في الحلية بسنده عن سيدي مالك قال : ( أتينا أنس بن مالك – صفو كل قبيلة – انا وثابت البناني ويزيد الرقاشي وزياد النميري واشباهنا فنظر الينا فقال :ما اشبهكم باصحاب محمد

ثم قال : رؤوسكم ولحاكم , ثم قال :- ( والله لانتم احب الي من عدة ولدي الاان يكونوا في الفضل مثلكم , واني لادعو لكم بالاسحار) .
هنيئا لك يا سيدي مالك حظيت بصحبة سيدنا انس بن مالك صحابي سيدنا رسول الله

ونعود الى استكشاف بعض ملامح العظمة في شخصية الامام ابن دينار فتقف على داعية من دعاة النور والفضيلة وعلى قدوة تضافرت لها مقومات التصدر للهداية والقيادة الروحية . لقد كان سمته وحده خير ناصح ومرشد وحاله يدلل عليه اكثر من مقاله ومقاله اروع تجسيد للحكمة الهادية , كان

ومن حكمه المضيئة : ( ان البدن اذا سقم لم ينجع فيه طعام ولا شراب ولا نوم ولا راحة , وكذلك القلب اذا علقه حب الدنيا لم تنجع فيه الموعظة ) , وكان يقول : ( كان الابرار يتواصون بثلاث : بسجن اللسان , وكثرة الاستغفار , والعزلة ) ولان الحكمة ثمينة لا يعرفها الا اهلها , فقد نعى سيدي مالك على المعرضين عن الحق وصور حالهم قائلا : ( يا هؤلاء : ان الكلب اذا طرح عليه الذهب والفضة لم يعرفها واذا طرح اليه العظم أكب عليه كذلك سفهاؤكم لا يعرفون الحق ) , وحقا ما قال فلقد مني الحق في كل زمان بالسفهاء كما مني الاولياء بمن ينكرون عليهم ويناصبون التصوف – وهو قمة الروحية الاسلامية – العداء ولكن وليهم الله ورسوله فلا يبالون بعنت المحجوبين .
وهذا مثل من صميم الواقع يصور لنا الى اي مدى جعل الله الاولياء سفنا للنجاة .
يروي العارف المناوي ان سيدي مالكا دخل لص داره فما وجد شيئا يسرقه , فجاء
ليخرج ومالك ينظره , فقال : سلام عليك , اعلم ان شيئا من الدنيا ما حصل لك فترغب في شيء من الاخرة ؟
قال نعم .
قال توضأ وصل , ففعل الى الصبح فحرج به مالك الى المسجد , فقال اصحابه : من هذا؟ قال : هذا جاء يسرق فسرقناه ) ومن الوقائع اللطيفة ان سيدي مالكا سرق له مصحف .فوعط اصحابه فجعلوا يبكون فقال : كلنا نبكي فمن سرق المصحف ؟!
وكان من دعائه


