الاثنين، 26 ديسمبر 2011

الشيخ حسن ودحسونه


من كتاب الطريقة القادرية في السودان والدعوة الى الله
لكاتبه الشيخ محمد الخليفة الحسن أبوقرون
مـيلادهُ ونشـأتـهُ:
هو الشيخ حسن ود حسونة بن الحاج موسى بن محمد بن جمال الدين بن محمد بن حسن بن على بن إبراهيم بن إدريس بن صالح بن حسونة بن موسى بن عبد الله بن إسحاق بن الحسن بن إبراهيم بن المرتضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن على زين العابدين بن الأمام الحسن بن الإمام على كرم الله وجهه (1).
قدم جـده الحاج موسى من الجزيرة الخضراء بالأندلس وتزوج من قبيلة المسلمية فوُلد له حسونة الذي تزوج من بنت خاله فاطمة، فولدت له أربعة أبناء الشيخ حسن، والشيخ العجمي، وسوار، والحاجة نفيسة. وقيل إن مولده سنة 968هـ (2) في منطقة الجزيرة كجوج التي تقع شمال الخرطوم بالقرب من شندي، فنشأ تحت رعاية والده، ولم يذكر أنه التحق بخلوة لقراءة القرآن الكريم. وشبَّ على كثرة الذكر والعبادة ومحبة الصالحين، ولما بلغ سناً تمكنه من المعرفة قام بالبحث عن الشيخ الذي يبايعه ويأخذ عنه آداب السلوك.
قال الكوفي قال لي الشيخ حسن: (أخبرك يا كوفي بدايتي: أول أمري خرجت أطلب لي شيخاً في الطريقة فدخلت الجزيرة إسلانج، فأكرموني وضيفوني، فقلت هؤلاء أكرموني وضيفوني ما هم شيوخي. سافرت إلى الجزيرة إنقاوي فأكرموني فيها، فقلت ما هم شيوخي. ثم جيت إلى المطرفية فوجدت الفقيه أبو بكر(3) شيخاً كبيراً مجتمعين عنده الناس على كرامـة (4) فقال لواحد منهم: يوجد لحم؟ قال له: نعم، قال: في ملاح؟ قال نعم. قال لي: يا فقير شيل هذه الفضلة ملحها بالماء وكُل. فقلت هذا الما أكرمني هو شيخي. ثم قال لي: يا فقير املأ هذه الركوة من البحر، فلما جيت عند البحر امتلأت وحدها من البحر وجاءتني من غير ما أملأها. فجيت إلى الشيخ فوجدته شاباً. فتوضأ فصلى ثم طال حتى وصل رأسه سقف الخلوة، ثم عاد إلى حاله شيخاً. فقلت في نفسي هذا شيخي. فقال: أنا مانِ (1) شيخك، أمشي أدخل ليك خلوة في باعوضة (2) فإن شيخك يجيك فيها. فانه يكون لك شأن عظيم، أبقى بعدنا على ذريتنا عشرة) (3).
كان الشيخ حسن في بحثه عن الشيخ المربى حريصاً على الإذعان والتسليم لمن يأخذه بشيء من الخشونة التي تعينه على قوة التحمل وارتياد الصعاب، وقد وجد طلبه في الشيخ الفقيه أبو بكر الشهير بـ (رجل حجر العسل)، الذي أنبأه بأنه ليس هو شيخه، ومع ذلك فقد أرشده إلى ما ينبغي عليه أن يعلمه من أدب وسلوك.
الطريق إلى خـلوة باعـوضـة:
التعريف بخلوة باعوضة يعني الحياة الروحية التي يعد توفيقها نعمةً هوّنت على ود حسونه كل صعب من المجاهدات، وما حوت من عزلة انفرادية وجوع وسهر وديمومة ذكر لا يفتر.
الطريق الصوفي يعني الموت الحقيقي للنفس بحرمانها من الملاذ التي تتناولها، إلا ما يقيم الحياة ويعين على الحركة والقدرة على فعل شيء، ومعرفة الأبعاد الصوفية أنه كلما ضعفت قوى النفس الحيوانية بالتقليل من حلو ولذيذ الأشربة وكثير الأطعمة المتخمة للبطون... يكون استعدادأ إلى خطوة أكبر، وترك شئ مما ذُكر من اللذائذ تخلفه قوة معوض روحي غير منظور يعين الإنسان في مساره. وحصول ذلك يحتاج إلى تدرج بالصيام والقيام موالاةً حتى تتعـود النفس على الإنفطام، وأما الهجوم على ذلك قد تحصل منه أضرار كثيرة فتسبب هوساً وجنوناً، وليس الأمر في هذا تتحمله كل نفس، يؤيد القول بوجود معوض روحي قول النبي(r): (أبيت عند ربي فيطعمني ويسقين).
الجهاد أو المجاهدات ومنها مجاهدة العدو وهذا فرض لحماية الدين وأهله وعامة ديار الإسلام. والقسم الثاني نافلة ارتضى الإنسان أن يفعلها مختاراً، فهذا ما كان من الشيخ ود حسونه وأضرابه، الذين بذلوا النفس رخيصة وتجشموا الصعاب يرجون رضاء الرب سبحانه وتعالى، وليس وراء ذلك نظرة استفادة عاجلة من أمر دنيوي. وتقول الأمثال الصوفية (في قتل النفس حياة الأبد)، ولعل في الوحي القرآني إشارة لذلك بقوله تعالى: {فَاقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ عِندَ بَارِئِكُمْ}[البقرة:54] وغير ذلك من آيات تشير إلى المعاناة لتتخلص النفس مما يبعدها عن الصراط المستقيم.
يسوقنا التعريف إلى خلوة باعوضة أن نسمع ونقرأ ما حدث من الشيخ ود حسونه في عزلته التي ارتضاها متيقنة بها نفسه، مطمئن لما يحصل له فيها من خير، وواثق بما وعده به الفقيه أبو بكر، فذهب ود حسونه ودخل خلـوته البادئ كل شئ فيها بالمصاعب، وكل ما هو مخالف لما انطبعت عليه النفس من مألوف، والانسلاخ من ذلك يحتاج إلى قوة نفس متحلية بالصبر تصمد في حلبة الصراع الجبار.
فهل كان شيخنا ود حسونه الفتى الذي لم يتجاوز العشرين إلا قليلاً من الصنف الذي يستطيع ويصلح للصراع الجبار الذي يتقهقر من حلبته أؤلي القوة والبأس؟.
فلنترك أبو حميدة حواره يحكى لمحات عرفها عن حياة أستاذه لما كان له من مباشرة الخـدمة، قال إنه: (بنى بيتاً على الضفاف الشرقي من الجزيرة باعوضة مقابلاً للخلوة يقوم بالخدمة اللازمة)(1).
ويبدو أن طول المكث الذي صبر على شدته ود حسونه أحدث بعض التطورات في العبادة والزهد بالتخفيف عن كثير من المألوف من مأكل ومشرب، حتى أنه طلب من أبي حميدة أن ينسج له قميصاً من لحاء العشر يلبسه بدلاً من الثياب العادية(2)، وهذا شيء ارتآه ود حسونه وارتضاه لنفسه، وله ما رأى فيما يريد أن يلبس... الإنسان في الحياة وعرفها له اختياره. أن يسكن في الأكواخ متزهـداً، أو أن يسكن في المباني العالية الجميلة مستمتعاً بذلك ما دام المال من حلال الكسب- غير مغصوب أو من وجه ربـوي- وله كذلك أن يلبس الملابس الفاخرة من غير عجب أو تعالى نفس، أو يلبس ما شاء من متواضع الثياب، تتسع نظرة التشريع التمليكية لعرف هذا وذاك من غير تضييق، الشرع ترك للإنسان مجالاً واسعاً في اختيار أنواع الملبوس والمأكول ما أمتثل الأمر الإلهي مراعياً للكسب حلاله وحرامه، فما كان من ود حسونه في خلوته الاعتزالية فهو أمر ارتآه، وعانت فيه نفسه كل صعب صابراً محتسباً رضاء الله تعالى، وكان من الثواب ما وعُد به أستاذه الفقيه أبو بكر رحمه الله.
قال له: (أنا ما شيخك أدخل خلوة في باعوضة فإن شيخك يجئك فيها) (3)
امتثل ود حسونة أمر أستاذه الفقيه أبو بكر متيقناً ما قاله له... تسابقت خطواته فرحةً إلى معتكفه بالجزيرة الصامتة إلاّ ما كان من تغريد الطيور وصرير الصراصير التي تصك صماخ الأذن... كل شئ في الجزيرة صامت ومخيف... يزيد ذلك حفيف الأشجار وتضارب الأمواج على حافة الشاطئ، إنه مكان موحش ومخيف بتسلق ثعابينه سوق الأشجار صعوداً وهبوطاً. إلى هذا يقدم الشيخ الفتى، ولكنه هل فكر بروّية وتصور هذه المخاطر وما في الجزيرة من وحشة وصعاب تواجهه وهو ملتف بجدران خلوته المستديرة التي بنيت على عجلٍ من غير جودة ومن غير منفذ لهواء أو إضاءة شمسٍ...لا يراه أحد ولا يريد كذلك أن يرى أحداً إلا أبوحميدة التلميذ المرافق لقضاء بعض الحوائج يأتي إليه بعد كل مرة من شرق الجزيرة.
نترك الشيخ يقص اعتكافه وما كان فيه، قال: (قدمت باعوضة فاختليت للذكر والعبادة فجاءني رسول الله(r) ومعه على وقيل أبو بكر فلقنني الـذكر) (1).الحديث عن خلوة الإعتكاف في باعوضة لا يعني اعتكاف أيام بل فيما يبدو أنه سنينٍ تتراوح بين الثلاث والخمس أو تزيد، والحديث فيها يسوق الى التطورات الغريبة التي حصلت وقائعها لود حسونة، وجاد ببثها من غير بخلٍ أو ضنٍّ، ولم يكن تناولها للمتعة القصصية التي تروي ساحات فراغ النفس بالأحاجي والحكايات الشعبية، بل تطورات خطيرة في مناحي الروح الحديث فيها يغوص إلى ما وراء أبعاد النفس وظواهرها التي تعجز التحليل العقلي.
ما يعني من أمر الروح هو تبلور أطوار غريبة تجل عن حديث الظواهر النفسية، والنظر في أمرها وددنا أن يكون دقيقاً لضيق مساربه ومسامه ورجونا كذلك أن يكون بهذه اللمسات دقيقاً... لا أظن الحديث في هذا يستطيع طرقه كل أحد، والإجابة كذلك لا أخالها تكون مغنية إن كانت من نظرةٍ غير غائرة في أبعاد النفس وما وراء ذلك من قوة خفية. على أيٍّ مهما أسبرنا الغور غوصاً وتأملاً لا يمكن أن يأتي الحديث مفيداً مثل الذي كابد حرارة السلوك وتمعن في معانيه وشاء الله له تفتح مسام الرؤى الروحية.
ونقف عند بداية هذا التطور، يقول ود حسونة أنه أخذ البيعة من النبي صلوات الله عليه وسلم، وكذلك صيغ الذكر الذي يتعبد به، يحكي هذا بكل وثوق أنه في حالة اليقظة. كيف هذا وكيف كان؟‍‍!‍ أنه أمر غير طبيعي لا يحصل للإنسان في حالته العادية، وإنما حالة من الإرتقاء طوت أسجاف الغلظ المادي والغشاء المتكاثف حول مرائي الروح، هذا الطور غير الطبيعي لا نحرم منه إلا بسبب القفص الجسدي وأحواله، وكما للجسد أحواله ومطالب حياته التي يتعشقها كذلك الروح لها مطالبها وما تتعشقه من معاني إمور. الإلتقاء بالنبي صلوات الله عليه وسلم في الحياة الفانية بلا ريب أمر مستغرب عند الكثير، ولا يستطيع له هضماً أو تفهماَ، ويضيف ود حسونة إلي بيعته التي تعني الإلتزام بأمر الدين كما هو مفهوم البيعة عند رجال التصوف، أنه لقّنه الذكر وهذا فيما يبدو أنه الاسم الأعظم الذي إذا دُعي به أجاب وإذا سئل به أعطي، وكان له معوضاً روحيا ًفي خلوته حاجة ومطالب الجسد من أكل وشرب وهو لا يعطي بمحاولة التكريس على تلاوة أعداد كثيرة لتسخير رئ ٍ من الجن أو غيره، كما يرهق بعض الناس أحوالهم في هذه الأوهام، وإنما هو سر يُعطى ويُمنح بمقادير وموازين إلهية. وقد أفرزت خلوة ود حسونة تطورات كان له فيها سعادة لا توازيها سعادة، وكل وصف يكون قاصراً عن التعبير عنها، فقد هون عليه كل صعب في خلوته ثم ما كان بعد في سياحته، وهو على سجاد الطريقة يوجه ويرشد في أمر الدين، ويبذل ويعطي عطاء من لا يخاف الفقر، هذا وغيره من إمور عادية تجري في حياته.
ونترك سنة اليراع تجري سعيدةَ محبورةً بما غيض لها من تحبير عن رؤية المكاشفة الغريب علينا فيها كل شئ، إنه لقاء الروح الذي يُدقّ عن الأفهام وتعجز المدركة الإنسانية عن تصور وتخيل رؤيتها في الحياة العادية. ما وقع لود حسونة من هذا أمر لم يكن في اللحظات العادية، إنه ارتقاءٌ انعكس إشراقه على مرآة الروح أجلى في لوحها الشفاف رؤية الكائنات العلية، تحدث عن هذا بكل وثوق مُبعداَ لكل توهم وتخيل غير سَوِيٍ، فقد كان في حالة من الإعتدال والتماسك نفسياَ وعقلياَ. ومع ما نذكر من أحوال تيسر الفهم لرؤية المكاشفة التي حصلت للشيخ ود حسونة يتأتى سؤالٌ: هل لعقولنا هضم وتصور الأبعاد الروحية التي تجلت له ظاهرتها الغريبة؟ إن غرابة التصور وعدم محاولة الفهم لعالم الروح أمر يجعل الغيب بكل صوره ومعانيه أمر مشكل على العقول. إن التأمل في الواقعة يجب أن يكون بمنظار روحي يخترق الأسجاف المادية و يقرب بين النفسية المتجافية مع المفاهيم الروحية. وبجانب هذا لو سلطنا المجهرعلى مختبر تعامل الإنسان مع الذرة الخفية لاستخلاص روائعَ معجزةً، عله يهون ما يصعب إدراكه، وحين نحاول البحث والنظر في قضايا الروح الشائكة المسالك وددنا أن يكون التعامل بعقلية ترفض كل ما لا تستطيع إدراكه ،إن طرق مختبرات تجارب العلوم الإنسانية لفوائد الذرة التي لا تري ينقلنا من النظرة المتجافية مع حقائق العلوم أيَا كان نوعها،والذرة مع ضآلتها وخفائها عن الأبصار لها وجود الحركة المدهشة .. مقدمة تفيد نتيجتها أن ما يكون لقلة من علماء الاكتشاف المادي يقرب مسافة العقل بتجويز خفايا اكتشاف تطلع عليها قلة من الربانيين في ملتمسها لعالم الروح الموًَّار بالحركة صعوداً وهبوطاً. كثيرٌ من أحوال النبوات الكريمة تعطي مفهوماً لإمكان الالتقاء مع الروح التي غادر صاحبها هذه الحياة. ندرك للروح وجوداً، تشعر بالألم والنعيم كما يشعر الجسد بها، وما كان له وجود وشعور تجوز الرؤية له وإلا حكم بعدمه. رغم محاذير كثيرة تضع حاجزاً من الخوض في أمر الروح وعالمها إلا أن تجربة الربانيين تفتح منفذاً للحديث.

ومع تنفس الصبح الذي يأمر بالرجوع من الرحلة الروحية المضنية وبعد ترويح وراحة قليلة من عناء السفر الذي شدّتنا أشواقه الى تلك الأبعاد نترك المكان خلياً لتلاميذ ود حسونة الذين جادت قرائحهم موثقةً أمر البيعة الروحية نظماً وروايةً، ومن هؤلاء إبراهيم الشيخ الإمام تلميذ ود حسونة وخليفته. قال في قصيدته الشهيرة مطلعها:


يـــوت عــند بابو زحمـة



ذاك باب الرحمة زيــارو

الشـــيخ حـــسـن

من الرسول أخذ الطـــريقـة



شــــــــيــــــخ الحــــقـيقــة

فوق أم أضان حل المضيقة



إن قلت حسن نار الحريقة

الشـــيخ حـــسـن

الــنعــمـــــــــــــة حـــــــازا



خذ مني هذا قولاً صحيحــاً

من الرسـول جاتو الإجازة



سيد القهيد سيد أم قزازة

الشــيخ حـســـن

وهنا تبدو قضية وهي مسألة الإلتقاء بالنبي(r) يقظة والإستفادة منه، أمر يصعب استيعابه على الكثير التعامل معه، يحتاج إلى فقه بحقائق الروح وتطوراتها الغريبة. (ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين).
فمن المشهور الجلي أن النبي(r) صلى بالأنبياء ليلة الإسراء والمعراج، والأجلي من ذلك أنه التقى بنبي الله موسى عليه السلام في معراجه فراجعه في الصلاة المفروضة. عن جابر أن الرسول(r) قال: (عرض على الأنبياء، فإذا موسى ضرب من الرجـال كأنه من رجال شنوءه. ورأيت عيسى بن مريم عليه السلام فإذا اقـرب من رأيت به شبهاً هو عروة بن مسعود. ورأيت إبراهيم صلوات الله عليه فإذا أقرب من رأيت به شبهاً صاحبكم - يعني نفسه - ورأيت جبريل عليه السلام فإذا أقرب من رأيت به شبهاً هو دحية بن خليفة).
وروي عن ابن عباس رضى الله عنهما، قال: سرنا مع رسول الله(r) فمر بوادي الأزرق فقال: أي وادي هذا؟ فقالوا: هذا وادي الأزرق قال: (كأني أنظر إلى موسى عليه السلام هابطاً من الثُنيّة وله جؤارٌ إلى الله تعالى بالتلبية. ثم أتى على ثنية هرش فقال: أي ثنية هذه؟ قالوا: ثنية هرش. قال: كأني أنظر إلى يونس بن متى عليه السلام على ناقة حمراء جعدة عليه جبة صوف، خطامُ ناقته خلبة وهو يلبي)(1). وقال الجلال السيوطي رحمه الله: ولا تمتنع رؤية ذاته الشريفة بروحه وجسده، وذلك لأن النبي(r) وسائر الأنبياء عليهم السلام أحياء ردت إليهم أرواحهم بعد ما قبضوا. وأذن لهم في الخروج من قبورهم والتصرف في العالم العلوي والسفلي(2). وقد أجمع جمهور العلماء على أن رؤية النبي(r) وسائر الأنبياء جائزة لمن أكرمه الله تعالى بذلك من أوليائه، لأنهم أحياء تنتقل أجسادهم الشريفة حيث شاءت طليقة تحج وتعمر. قال عياض رحمه الله: فإن قيل: كيف يحجون ويلبون وهم أموات وهم في الدار الآخرة وليست هي دار عمل: فاعلم أن للمشايخ فيما يظهر لنا عن هذا أجوبة، إحداها أنهم كالشهداء بل هم أفضل، والشهداء أحياء عند ربهم فلا يبعد أن يحجوا ويلبوا كما ورد في الحديث(3) الثاني أن عمل الآخرة ذكر ودعاء. قـال تعالى: {دَعوَاهُم فيها سُبحانَكَ اللَّهمُ وتَحيَّتُهُم فيها سَلامٌ}[يونس:10]، قال البيهقي رحمه الله، بعد كلام عن حياة الأنبياء صلوات الله عليهم: فحمل من مجموع هذه النقول والأحاديث أن النبي(r) حي بجسده وروحه، وأنه يتصرف ويسير حيث شاء في أقطار الأرض وفي الملكوت، وهو بهيئته التي كان عليها قبل وفاته لم يتبدل منه شيء، وأنه مغيب عن الأبصار كما غيبت الملائكة: وكرامته رؤياه على هيئته التي هو عليها، لا مانع من ذلك ولا داعي إلى التخصيص برؤية المثال(1). وروى الطبراني بسنده عن ضمرة بن ثعلبة أنه أتى النبي(r) فقال له: ادع الله لي بالشهادة. فقال له النبي(r): الله حرم دم ابن ثعلبة على المشركين والكفار. قال فكنت أحمل في عرض القوم فيتراءى لي النبي(r) خلفهم. فقيل يا بن ثعلبة إنك لتقرر وتحمل على القوم فقال: النبي(r) يتراءى لي فاحمل عليهم حتى أقف عنده. ثم يتراءى لي أصحابي فأحمل حتى أكون مع أصحابي. قال: فعمر زماناً طويلاً من دهره(2).
ولقد رآه جمع من أئمة الدين وأولياء الأمة وعدولها الذين ثبت عنهم، دقتهم العلمية وصدقهم. ورد عن الشيخ المحدِّث جلال الدين السيوطي رحمه الله، أن شخصاً سأله شفاعة عند السلطان قايتباني فقال له: اعلم يا أخي أنني اجتمعت برسول الله(r) إلى وقتي هذا خمساً وسبعين مرة يقظة ومشافهة. ولولا خوفي من احتجابه(r) عني بسبب دخولي للولاة لطلعت القلعة وشفعت فيك عند السلطان. وإني رجل من خدام حديثه(r) واحتاج إليه في تصحيح الأحاديث التي ضعفها المحدثون من طريقهم، ولا شك أن نفع ذلك أرجح من نفعك أنت يا أخي(3).
وهؤلاء العلماء المثبت فضلهم في الدين تعتبر أقوالهم حجة. قال الإمام مالك رضي الله عنه: إن هذا العلم دين، فانظروا عن من تأخذون دينكم. ويسند هذه الأقوال حديث: من رآني في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي (1).
المعـراج الـروحي:
إننا ندرك أن الحديث عن عالم الروح شائك الدروب والمسالك، ورغم أن رؤى الربانيين من هذه الأمة توشك أن تكشف لنا عما وراء تلك الحجب الكثيفة التي تمنعنا عنه، إلا أنه يظل دقيقاً يجعلنا نتصف بالجهل المطبق لهذه الأبعاد وأحداثها وما يجري فيها. ومع ذلك نفس الإنسان تتوق دوماً لسماع تلك الأحداث التي تشعره بتكريمه ككائن بشري، لا يستحيل عليه ككائن غريب الأطوار الروحية أن يحظى بفيض من المولى عز وجل، يرتقى به، قفزة روحية عالية إلى رحاب تضيق عنها الافهام، وتزلزل العقول زلـزلة شديدة إن لم تخضع لسلطان الإيمان، ولهذا نورد تتمة حديث الشيخ حسن رضي الله عنه، ونلتمس العذر لمن ثقل إدراكه عليه ووقف عقله مع الطبيعيات.
قال الكوفي: قال الشيخ: (يا كوفي أنا في الخلوة راقد، رأيت نجمة كبيرة في السماء تعلقت بها روحي وخرجت من جسمي فطارت، فخرقت السموات السبع فسمعت صريرالأقلام. فلو كان يا كوفي بعد محمد(r) نبي لتنبأت. ثم رجعت فوقعت في جزيرة من جزائر المالح([1])، فجاءني رجل لابس كسايين من صوف فلقنني اسمين ومشى معي خطوتين وجابني في قوز الصغيروناب([2]) فوجدت الشيخ الزين في الدرس ومعه ثمانمائة طالب، فلما قابلتهم رطنت رطانة عجمية فتركوا القراءة، ثم رجعت فوجدت رواسى([3]) عند مركب فأدخلني فيها، فجيت طالب خلوتي فوجـد أبي يكسر ألس([4]) ساقيته. فقال يا فقير اقعد حتى ننزلك، الخلوة فيها فقير فخلاني "أي تركني"، فدخلت خلوتي فوجدت يا كوفي جثتي في الجبة إن نشروها بالمنشار ما تتحرك فماعت لها روحي فدخلت فيها، ثم جاني أبي فقال: أين الفقير الذي دخـل عليك؟ قلت له: ما دخل علي أحد، فقص الدرب منكّساً حتى جاء عند الرواسي - أي رئيس المركب - وأنا معه، فقال من رمى في مركبك اليوم؟ فقال له: جاني رجل رميته([5]). يعاينني([6]) وأراد أن يقول هذا ويسكت. ثم قال لي: يا حسن أنت يجوك الأولياء ليرشدوك)([7]).
لقد اهتم العلماء قديماً وحديثاً بالبحث عن عوالم ما وراء المادة، وحتى أصحاب الفلسفات المادية أفردوا له أخيراً كراسي الأستاذية بالجامعات تحت اسم: علم ما وراء النفس أو الباراسايكولوجي، أدرجت تحته الكثير من المعارف المتعلقة به مثل تجارب الإتصال عن بعد دون وسيط مادي، وهو ما يعرف بالتيليباثي، ومثلاً للتأثير على الأشياء المادية بمجرد النظر إليها، وتجارب الإستحضار الروحي - وهي التي يراها جمع من علماء الدين ضرباً من ضروب الإتصال بعالم الجن، والجميع يقف حائراً، دونه ودون الحقيقة حائل يصعب اختراقه.
ولكن أقرب الناس للصواب في هذا الفريق الذي يبحث في الشفافية الروحية من خلال تجربة الربانيين من هذه الأمة المحمدية. ويمكن القول عن هذا الحدث هو تألق روحي تستشرف الروح أثناءه عوالم الملك والملكوت، وسجلت مدركتها كلما رأت أثناء هذا التألق العرفاني العظيم. ويحضرناهنا قول الإمام الغزالي عن الصوفية: من أول طريقهم تبدأ المشاهدات والمكاشفات، حتى أنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة وأرواح الأنبياء، ويسمعون منهم أصواتاً ويقتبسون منهم فوائـد. ثم يترقى الحال عن المشاهدة والصور والأمثال إلى درجات يضيق عنها النطق، فلا يحاول أن يعبر عنها إلا اشتمل لفظه على خطأ صريح لا يمكنه الاحتراز عنه([8])
إن عالم الـروح غريب عن حِسنا العادي، وتصرفه يختلف عن عالمنا المادي الذي يتيسر الخوض فيه، لأن نواميسه المتاحة للإنسان بالنظر والتجربة، حتى يخيل إليه أنه يستطيع أن يفعل ما يريد. ورغم ذلك فقد حاولت بعض الأقلام أن تطرق عالم الروح المحجوب، لعلها بصدق حسها تجد منفذاً تلتمس منه معرفة يمكن نقلها للآخرين ولكن هذا العالم أسراره محجوبة.
الرحلة مع الزاهـد الملك:
عند خروج الشيخ حسن من خلوته التي ظل فيها وقتاً ليس بالقصير، ضرب في فجاج الأرض للعبـادة والتأمل في صفحات الكون. والسياحة هي من جملة الآداب الصوفية التي يقصد بها أصحابها الخروج عن المألوف.
قال صاحب الطبقات: (ثم بعد فراغه من الخلوة حجّ إلى بيت الله الحرام وساح في الأرض من الحجاز ومصر والشام نحو اثنتي عشرة سنة ومعه جماعة منهم أبو حميدة وأحمد تودُّ الضنقلاوي. وبالجملة أربعون سنة من ميلاده([9]) إلى بلوغه ودخوله الخلوات وسياحته في الأرض. قال الشيخ: قدمنا مكة ووجدنا فيها رجل شريف قطب، وتحدث معه في إمور كثيرة في حياته وحدث ما أشار إليه([10]) فقد أقبلت الدنيا على الشيخ حسن بعد عودته من الحج والسياحة. وبارك الله له في أمـواله وسعيته فنمت إلى قدر عظيم. والحديث في تعامله مع الدنيا ورؤيته لها أنها فتنة ألمت به، حتى إنه يقول: أنا ما حسن الأول، نقصتُ بارتكاب الدنيا([11]). ومع هذا كان يصرِّفها في مصارفها بسخاءٍ تام حتى إنه اشتهر باسم الباذل لكثرة عطائه. فقد أبتدرنا القول بعجالة خاطفة تسعف الراكب في الرحلة مع حياة ود حسونة الباذل وما فيها من مظاهر كثيرة... تمر حياته بثلاث فتراتٍ كل فترة تمثل قنطرة هامة لا تسمح بالعبور إلا بعد البحث عما حوت من أحوالٍ، ويبدو أن بدايته لطلب الشيخ كانت فترة قلقة في حياته تبحث عن المعاني الروحية المستقرة. رحل إلى الجزيرة اسلانج وانقاوي والمطرفية بحثاً عن الشيخ الذي يشعر بوجوده الروحي في نفسه، وهذه الفترة هي البداية، ثم المجاهدات والسياحة وما اتسمت به من ظواهر صوّبت نحو علاها الأبصار، وهذا أمر من الطبيعي أن يجعل الإنسان يسطره لتفجيراته ولما للناس من شغف ومحاب لعلاها.
اجتماعيات مسيد الباذل :
يبدو الحديث عن تطورات مناحي الروح في حياة الشيخ الباذل أخذ معناً جمالياً ممتعا تعشقت أطواره الآخذة أصحاب الشفافية ،التي تتودد حباً وشوقا ًلمعاليه السامية إلا أن مع هذا الارتقاء وشغف الحب فلا بد من تقييد وتوثيق للأحوال العادية لما فيها من واقعية تفيد المعرفة بحياة من يؤرخ له- النسيان أو الغفلة شطب لواقع انسانى عظيم ، هذا اللون من الأحوال الروحية والعادية وهو من مقاصد السِفْر، لكل منهما لونه ومقاصده في تاريخية الحياة ، يؤكد معنى في شخص صاحبه ، ولكن من الطبيعي أن تفنى الحياة المادية وتندثر ، وتبقى الحياة الروحية طوداً بازخاً تتعلق بعلاها الناس حتى بعد إنتقال صاحبها إلى الحياة البرزخية العامرة ،وهذا أمر جلي وأعظم شأن أصحابها في النفوس ، وجعلهم مرجعيةً وملاذاً تذكر الناس بصالح العمل الخير،هذا وذاك دعا البحث إليه الشكل الإجتماعي الذي يعيشه مسيد الشيخ ودحسونه، ولعل بداية الترحال إلي الدُّرُوربة (1) التي أوجبها تدفق النعم الحياتية يعطي ملتمساً لأحواله المعيشية ولسائر إمور تعامله. قال ود ضيف: (لما كثرت المواشيعنده طلع إلى الدروربة واستخدم العبيد وأركبهم الخيل – خمسمائة عبداً لهم سيد وجند- والخيل المسومة تجلب إلى جبال تقلي ودار برقو و دارفور و أولادعجيب) (2). حالة من الثراء كان يعيشها الشيخ ود حسونة ويزيد الحال تعجباً وصف الشكل الهندسي لمنازله الخاصة ومنازل الضيوف أنه على نمط القصر السناري ذو المنظر البهي الجميل الذي يتناسب جماله وأحوال الملوك وما يعد لاستقبالوفود وملوك مماثلة.
رغم المناحي الروحية وما تحوي من مجاهدات وتفجيرات خارقة ينقلنا ود ضيف إلى الملامح العادية في تعامله مع الناس والمحاسبة لعماله الذين يوليهم إدارة أعماله، يسألهم عن أدق الأشياء فيما أولاهم من عمل، وعن صغار الحيوانات وإرضاعها ألبان أمهاتها ويسأل عن التصرف فيما بقى من الألبان فيقولون أنه ( ثمانية ويبة) (3) فيأمر بتوزيعه لأولي الحاجة.

دقة في الحياة السلوكية ودقة في الحياة والمعاشية تضع الصنوج في كفة الميزان المستقيمة أرجحة في أوزانها من غير إهمال أو ضياع، ويتفقد خلاوي المريدين ومنازل الضيافة ويسأل عما يقدم من وجبات، ويحاسب على التقصير أشد المحاسبة، فيتحسر ويندم على مايقع من العاملين تجاه القاطنين والزائرين فيقول: (واشقاوتك ياحسن.....الخ) (1). نرى الشيخ مع ما كان من تنظيم دقيق بالمقاديم والجند الموزعة للإشراف على أحوال الناس إلا أنه لم يترك الأمر من غير مراقبة فقد وضع خطة ثابتة لوجبات الخلاوي: ( تذبح لكل خلوة شاتين كل يوم)(2).

كانت هذه الفترة من أعظم فترات حياته قدّر له فيها الإستقرار وسطع فيها نجم قطبيته الروحية والحياتية صعوداً وتألقاً، خطت بصماته الإنسانية على قمة القنن العالية سماتاً هامة في تاريخية الحياة الصوفية في المملكة السنارية الإسلامية، فكان شخصه معلماً تدور حوله قضايا الناس أياً كان نوعها ومطلبها. هذا الوجه من الحياة وهو الذي يراد ويقصد لما له من معنىً وبعدا ًميز شخصه بقوة إرادة فرضت على الحياة نهجه الذي يريد... تفكيراً ومعاملةً وتنظيماً يُلمح في ميدان حياته.

ونذر ود ضيف يكمل الصورة الإجتماعية الزاهية من حياة الشيخ حسن ود حسونة بما يروي عن الفقيه عبد الصادق رجل أم دوم الذي قدم بدعوة من الشيخ ود حسونة فوجده غائباً يتعبد في الخلا، وبعد أيام سمع الهمرجة(3) والزغاريد... جاء الشيخ رجل قصير أصلع له قرون ـــ ذوائب شعر، فلما زالت الشمس وبرد النهار ضربوا النقاقير ووضعو فرشة روميةً كبيرة فوق الدكّة أمام الديوان، ثم جاء الشيخ لابس قميص متعالي - لعله يعني جميل - فقام إليه العبيد فظلوا يتحدثون أنا فلان...الخ، فلما فرغوا قام الفُقراء ثم أرباب الحوائج سلموا وتكلموا (1). ويتحدث ولد حسيب بنوع آخر من أحوال:(عرضت عليه مريضة مرضاً مزمناً فوضعت أمام الدكّة - المسطبة التي يجلس عليها- فقال لأمها: أعزم لها بوقية ذهب، فوضعت المقدار الذهبي أمامه، فقال للمريضة قومي فقامت وقال لأمها في ملاحة: صفقي لها لترقص).

هذا يجري والفقيه ود حسيب ينقلنا بوصفه إلي مشاهد رمضانية جميلة في مسيد الشيخ الباذل وحياته الغنية بالنعم والخيرات الوفيرة المتدفقة بسطاً من غير قبض على ضيف أو ذي حاجة أو ذي متربة... حالةٌ زاهية بنعيم الحياة ووجبات الإفطار والشمس متدلية خيوطها الذهبية إيذاناً بالمغيب عن الأعين، وأخذ الضيوف والقاطنون أماكنهم المتناثرة هنا وهناك في فسحات المسيد الوسيعة... وضجيج المتحدثين بأخبار المدن والقرى والأسواق يزهي الوقت بهجة خروج قطار الإفطار تحمله مائة وعشرون فرخة - فتاة- لابسة الفرك وثياب المنير وكل واحدة تتبعها أخرى شايلات قداحة الكسرة وكل واحدة ورائها أخرى في يدها قرعة مغطية، الجميع قعدن في وجهه وصار يوزع في الزاد ويقول: (أعطوا الفلانيين) وهذه تقوم وأخرى تتبعها حتى فرغ الزاد وبقيت واحدة يتبعها قال لها: ختيه) -أي ضعيه- في وجه ولد حسيب فكشفنا فوجدنا فيها ديكين وفرختين حمام وزرزورين - من الطيور- قال الشيخ :(فطورنا الليلة كله دجاج مربوط على الزير ليه تسعين يوماً) (2)... دنيا عريضة من المتاع المباح الطيب تعيشها حياة الزاهد الملك ود حسونة... آن لنا أن ننظر ما وصف من فطور الملك المحتوش بخيرات الحياة، وفيما يبدو أن الوجبة غنية بالطيبات، ولعل الفقيه ود حسيب يود لو أنه صبر قليلاً ليتناول معه الوجبة المنعّمة أكثر. يحضر الإفطار وكما يروى يقول : (طست ملئ بالقرض وطبق فيه قرص مُطّالة (1) ، أخذ ما قدّر له وشرب من ماء القرض ثم مضمض فاه وقام للصلاة) (2).

أنموذج فريد من حياة الشيخ حسن ود حسونة الباذل يوضح أحوال تعامله الإنساني الكريم الذي يتعامل به مع الناس من غير منّة أو رؤية نفس. هكذا يتعامل الشيوخ الأولياء }هَلْ جَزَاء الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ{[الرحمن : 60]، (الدين المعاملة(3)). الزوّار والفقراء يقدمون له ما تيسر لهم من الهدايا التي تتطيقها أحوالهم وهو يجزيهم ما لا يتصورون (يعطيهم البقرة الشايل والجمل) (4).

القلم يسطر أياماً عامرة بالإحسان من حياة الشيخ حسن ود حسونة، إلا أننا وددنا ألا تفوتنا صور ذات طابع خاص تحمل عروضا ًزاهية من الحياة العادية، و الشيخ تتوافق حياته العادية مع حياته الروحية يمتلك هذا لقوة فائقة لا تشذ إحداهما عن الآخري، وإن دلّ علي شئ فهو كبر الولاية وعطاء الله للعبد - يرزق من يشاء بغير حساب وبغير سؤال.وتسوقنا رحلة الشيخ ود حسونه إلي سنار بدعوة من القصر، وأرسل الملك بادي إلى ود حسونة ليعزم لأخيه ناصر، فتأهب للسفر معه المظاليم والمراقيب، وفي وجهه الخيل ثلاثة وأربعين وثلاثة كراديس قدامهم المكادة (الأحباش) يحملون البنادق وجمال البديد سبعين جملاً وهو راكب على جمل بطانة - أي حزامه حبل- فلما وصل خرج لنزولهم واستقبالهم القاضي والخطيب والمقاديم(5)، وطلع الملك فوق الرّاو - مكان عال – يتفرج فقال: هذا ملكاً أخذ مُلكنا.

بلا ريب ود حسونة إنه .... الباذل الزاهد الملك تحوشه الدنيا بكل نعيمها ويتناول الطعام الجرش أي الخشن، ويلزم نفسه سلوكاً روحياً قاسياً. متناقضات تجمعها حياته الصادقة الأمينة، أحوال الزهد والثراء معنىً كما رأيت والتقشُّف، يمتلك الخزائن والنعيم والخيل المسومة ومع هذا وذاك لم يغفل عن تدبير أحواله الروحية والحياتية، لم تؤثر في شخصه الأشياء بل بإرادة فارضة أثر في الحياة إنفاقاً وبذلاً، تميز شخص ود حسونة بأحوالٍ من عاديات الأحوال الإنسانية ولكنه يرتقي فيها إلى مصاعد يقل في مصاعدها المنافس. إنه زاهد يمتلك الدنيا وينافس الملوك، تضيق رحاب القصور وفناءها الواسعة عن أصحاب الحاجة والأيتام والأرامل وتتسع خلوات مسيده أبواب رحمة مفتوحة آناء الليل والنهار كله. حياة ود حسونة فهي تصويرٌ للتصوف الصحيح، توازن في أحواله الروحية والدنيوية. إنه أنموذج التصوف، (امتلك الدنيا ولم تمتلكه)، (استعبد الدنيا ولم تستعبده). هذا النهج يجعلنا نعيد النظرة في مفاهيم وجب أن تصحح في التصوف.

إن ما يعتري الكثير من ضعفٍ وقصورٍ في التوازن حال السلوك والتعبد لا يفهم من هذا أنه نتاج نهج التصوف، إنما هو أمر يتعلق بضعف أحوال الإنسان. التوازن بين هذه الأحوال أمر يصعب ولكنه كان شئ طبيعياً في حياة الزاهد الملك.

وارتحـل كوكب الـدين:
عاش الشيخ الباذل ود حسونه وتوفى سنة خمسة وسبعين بعد الألف. يقدر عمره بواحد وتسعين سنة. وفقه الله خلاله للكثير من الخيرات والمجاهدات. فبنى مسيده وفتح خلاوي الإنفاق والتكايا.
وتدفقت الناس من كل حدبٍ وصوبٍ تقصد تلك القيم والمعاني الرفيعة ، وقبل نهاية المطاف نذكر تلاميذه الذين سلكوا عليه الطريق، ويبدو أن


هنالك أسباباً جعلت الشيخ يرى أن يقتصر في هذا الجانب على بعض المريدين الذين يري فيهم نفعاً.
قيل له في ذلك: (أنت يا سيدي ما بتدى الطريقـة. قال لا حسد ولا بخل. لكن الناس لم يأتوا راغبين في الطريقة إنما يأتون لأجل يتفرجوا في فروخي وفرخاتي)(1)
ولكن هذا لم يمنع من إرشاد من أخلص في الطلب، وقد أرخ لبعضهم:في كتاب ود ضيف الله فقال (ممن وصل به إلى طريق الله تعالى جماعة منهم: العجمي أخوه، والكوفي عبد السلام البجاوي، والفقيه جميل الله، والفقيه محمد ولد سرور (2). ومن الضناقلة الشيخ موسى فريد والشيخ منور وأحمد تود (3).
انجذبت الناس إلى الشيخ حسن لما رأت على يده من كثرة الكرامات الدالة على ولايته وعظمت مكانته عند ربه. ولا تزال تلك البقعة التي أسسها وبنى مسجدها منذ ما يزيد على أربعمائة عام تغمرها روح اليقين وتعمرها أنفاس الإيمان التي تتصاعد مع توافد الناس إليها من كل فج ابتغاء البركة التي زرعها الشيخ الباذل في بقعته.
ولما كان لكل أجلٍ كتاب، كانت السُنة المحتومة أن يرتحل كوكب الـدين. ففي سنة 1075هـ أحس الشيخ بدنو الأجل فدعا أخوته ومحبيه لوداعهم. وقال لإخوانه: (أنا خلفت بلل الشيب ولد عبد الفتاح وزينه (1) بإصبعه بلا موسى وأوصى لخمسة فقراء بثلث ماله) (2). ثم أوقف الحفائر كلها لله تعالى. وذهب ليلقى الله لقاء المقربين.
قال تعالى:{يَا أيَّتها الْنَّفْسُ المُطمَئِنَة* ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرضيةً* فَادْخُلِي في عِبَادِي* وادْخُلِي جنَّتِي*} [الفجر:27-30].


(1) تاج الزمان - مخطوطة.

(2) الطبقات – فضل، ص 148.

(3) هو الفقيه أبو بكر رجل حجر العسل – راجع الترجمة رقم 37 في طبقات ود ضيف الله.

(4) الكرامة لهجة دارجة وهي ما تذبح ويعد زادها للناس ويجتمعون عليه بدعوة وبغير دعوة بلا حرج وهي عادة سودانية.

(1) مان: تعني (ما أنا).

(2) هي إحدى جزر ود حسونة وتقع بين جزيرتي مرنات وام يقد بالنيل جهة شندي.

(3) الطبقات ، ص 49 صديق إبراهيم.

(1) طبقات ود ضيف الله - ص 47 صديق.

(2) المصدر السابق، ص 47.

(3) طبقات ود ضيف الله - ص 47 صديق.

(1) التردد في معية على أو أبو بكر فهذه من الرواة وليست من ود حسونة.

(1) رواه مسلم والخلبة حبل مصنوع من اللليف.

(2) تنوير الحلك ، ص 38 جلال السيوطي

(3) يعني حديث ابن عباس رضي الله عنهما في تلبية موسى ويونس عليهما السلام.

(1) بغية المستفيد وسبيل السلام في الدفاع عن الصوفية الكرام.

(2) سبيل السلام - ص 95.

(3) بغية المستفيد - ص 215، السائح التجاني- والطبقات الصّغرى للشعراني.

(1) رواه مسلم.

(2) أي البحر الأحمر.

(3) أي قوز العلم (قوز المطرق) الواقع بين محطتي ود بانقا وشندي على خط السكه الحديدية. والنسبة إلى صغيرون بن محمد سرحان.

(4) في نسخة بحاري، وهما بمعنى واحد. ورواسي من كلمة ريس المركب وجمعها رواويس. وهي مستعملة عند الشايقية.

([4]) الألس هو حبل غليظ تشد عليه جرار الساقية. (يكسر الس ساقيته) أي أنه يفتل النبات الذي يصنع منه الألس ليتم صناعته.

([5]) رمت المركب أي تحركت إلى الشاطىء الآخر.

([6]) أي نظر إلي كأنه يريد أن يقول هذا هو من عبرتُ به، ولكنه لسبب ما يسكت.

([7]) الطبقات - فضل، ص 134.

([8]) المنغذ من الضلال-الامام الغزالي.

([9]) في نسخة:صباه.

([10]) الطبقات-فضل،ص135-146 بتصرف.

([11]) المصدر السابق – ص136.

(1) الدروربة جبل يقع غرب مسيده الآن 30-40 كيلو متر.

(2) طبقات ود ضيف – تحقيق د. يوسف فضل – ص 138.

(3) نوع من المكيال في ذلك الوقت.

(1)طبقات ود ضيف-تحقيق د.يوسف فضل – ص 138.

(2) المصدر السابق – ص 138.

(3) الهمرجة : أصوات الناس الكثيرة.

(1)طبقات ود ضيف-تحقيق د.يوسف فضل – ص139.

(2 طبقات ود ضيف-تحقيق د.يوسف فضل – ص142).

(1 قرص من الذرة يخبزه الرعاة على الأرض أو الحصى).

(2)طبقات ود ضيف.

(3 راجع مصدر الحديث في كتبه).

(4 ود ضيف – د. يوسف فضل – ص 143).

(5)المقاديم:جمع مقدم وهي من الوظائف القيادية في المملكة السنارية.

(1) الطبقات - فضل، ص 142. وقد أخذنا برواية نسخة الخليفة حسب الرسول التي بالهامش لاجل توضيح المعنى، المؤلف.

(2) هو جد الشيخ الطيب ود البشير.

بحث هذه المدونة الإلكترونية

الشكينيبة الشرافه والتاريخ

تقع مدينة الشكينيبة في السودان في الجزء الجنوبي الشرقي لمدينة المناقل على بعد تسع كيلو ترات منها . و لم تشتهر إلا بعد مجيء الشيخ عبد الباقي المكاشفي إليها في عام 1910م. تبلغ مساحتها حوالي 60.000 متر مربع ، و يقدر عدد سكانها حوالي 5.000 نسمة. و يعتمد أهالي المنطقة على الزراعة والرعي وعلى تجارة حول مسيد الشيخ المكاشفي.تعددت الأقوال في أصل الاسم فقيل اسم الشكينيبة من نشكو نوائبنا إلى الله - من قول الشيخ المكاشفي- وقيل من الشكنابه وهي قرعة اللبن عند أهل المنطقة. حط الشيخ المكاشفي رحاله بها وعمرها و حفر البئر وبنى المنازل. وفي هذه البقعة المباركة بنى مسجده وبنى حوله الخلاوى و أشعل نار القرآن و أوقد نار النفقة وشيد دور العلم وحفر الحفير، فأصبحت الشكينيبة مركز القاصدين ومورد الطالبين، و اجتمع فيها أعداد كثيرة من الأجناس المختلفة. فإذا جئت إليها واقتربت منها ترى الناس ينحدرون إليها من كل الجهات ما بين راجلين وراكبين على أشكال عديدة وقد امتلأت منهم مساحات كبيرة وإذا دخلت البلدة وجدت الخلاوي مزينة بطلاب القرآن و العلوم الشرعية ووجدت حلقات الذكر تعج بالذاكرين ووجدت دور الضيافة قد ملئت بأهل المقاصد المختلفة. و تعد الشكينيبة من أكبر الصروح الدينية والمعالم التاريخية التي ساهمت ومازالت تساهم في دفع حركة التعليم والإرشاد الديني في البلاد وقد ارتبط اسمها في أذهان جميع الناس باسم الشيخ عبد الباقي المكاشفي" رضي الله عنه " وما إن يذكر أسم الشكينيبة إلا ويذكر علاج الأمراض النفسية والعصبية والعقلية والروحية وغيرها من الأمراض المستعصية فقد جعل الله فيها سراً عظيماً ألا وهو الشيخ عبد الباقي المكاشفي و خلفاؤه الوارثون علومه. خلاوي القرآن: والحمد لله الذي أوقد نار تعليم القرآن بالشكينيبة وجعلها أرض مباركة طيبة وجعلها أرض ذكر ، و الشكر بعد الله للشيخ عبد الباقي المكاشفي الذي بنى الخلاوي وقام على أمرها والذي علم الناس كتاب الله وأرشدهم إلى سبيل الخير و الصلاح و جاء بالعلماء و الحفظة وكفل أمرهم . والحمد لله ثانياً إذ أنها مازالت إلى اليوم بفضل أبناء الشيخ وأحفاده الوارثين علومه قبلة الطلاب إذ يرسل الناس أبناءهم إليها ليحفظوا و يتعلموا كتاب الله تعالى. وليس هذا فحسب بل يزيد المشايخ على هذا كفالة اليتامى والمساكين وإرسالهم إلى المدارس والجامعات ليكملوا مسيرة تعليمهم. و خلاوي الشكينيبة واحدة من المعالم البارزة التي توحي إلى خصوصية البلدة ،ولقد تخرج منها رجال ومشايخ كثيرون ، وعند الحديث عن خلاوي الشكينيبة لابد من الإشارة إلى الخلاوي الأخرى التي قامت في مسائد و زاويا السادة المكاشفية و سارت على ذات الطريق. ألا جزاء الله الشيخ عبد الباقي المكاشفي وأبناءه وكل المشائخ القائمين على أمر الخلاوي و تحفيظ كتاب الله خير الجزاء الليالي و حلقات الذكر: عند الكلام عن الشكينيبة لابد من الكلام عن إحياء الليالي وإقامة حلقات الذكر كإحياء ليلتي الجمعة والاثنين من كل أسبوع في الشكينيبة وفي مسائد المكاشفية الأخرى. و في الشكينيبة خاصة تقام الاحتفالات الدينية الكبيرة التي يأتي إليها جميع أحباب ومريدي الشيخ من شتى أنحاء البلاد كعيدي الفطر والأضحية المباركين وليلة الإسراء والمعراج في السابع والعشرين من شهر رجب وتسمى " الرجبية" وهي من أكبر المناسبات بالمسيد و كذا الاحتفالات بمولد سيد البشرية" عليه أفضل الصلوات و أزكى التسليم " والاحتفال بليلة عاشوراء وليلة من النصف من شهر شعبان وكذا الحوليات وغيرها من المناسبات. و الذكر العام عند السادة المكاشفية ذكر جماعي بالاسم المفرد اسم الجلالة " الله الله " في شكل حلقة دائرية يتوسطها الرواة " الشعار" حاملي الدفوف " الطارات " يمدحون المدائح النبوية التي تحمل في طياتها صفات الرسول الكريم " صلى الله عليه وسلم" وتبين فضله و مكانته عظم رسالته التي حث الناس بالتمسك بآدابها وهديها، وهنالك أيضاً القصائد التوحيدية والقصائد القومية التي تروي قصص الأولياء و الصالحين الذاكرين المخلصين الذين جدوا في السير إلى مولاهم. ويقود الذكر شيخ ومن حوله المريدين والمحبين في شكل دائري ويسمون بـ " الاوتاد" لا يتعالى بعضهم على بعض ولو بأطراف الرؤوس كما جاء في نصائح الشيخ " رضي الله عنه " يترنحون شجناً ومحبة بالله الواحد الأحد العظيم ويتمايلون وجداً تمايلاً مصحوبا بالذكر " الله الله " أهزوجة روحانية تبعاً لإيقاعات النوبة والدفوف والكاسات ، تارة بإيقاع خفيف بضربات سريعة متلاحقة وتسمى " الحربية" أو " الخفيفة " وتارة بإيقاع ثقيل ضربة إثر ضربة وتسمى بالثقيل أو " الثقيلة" وهناك إيقاع آخر لا هو بالثقيل ولا هو بالخفيف ويسمى " بالشامية" أو المتلوتا." وبالذكر ومدح المصطفى ومدح أهل الله والإبحار فيهم تسمو أرواح الذكرين وتعلو حتى ترى من بعضهم حالا لا يدركه عامة الناس الحفير : و عند الكلام عن الشكينيبة و عن الشيخ عبد الباقي المكاشفي لابد من الكلام عن الحفير المباركة التي تقع شرق المسيد والتي قام بحفرها الشيخ ومريدوه ما بين عامي 1927 –1928م وتبلغ مساحتها مايقارب خمسة أفدنة تقريبا. تعتمد هذه الحفير المباركة على مياه الأمطار التي تصب وتتجمع فيها في فصل الخريف ، و تظل المياه بها في الغالب طوال أشهر السنة ومن ثم تتجدد في موسم الخريف ، ومن حكمة الله أن مياهها تظل خالية من كل التغيرات و من نواقل الأمراض وقد أكد ذلك بعثة معمل " إستاك" بالخرطوم وبعثة كلية الطب بجامعة الجزيرة الذين زاروها وفحصوا ماءها واكتشفوا أنها من أصح المياه الطبيعية . وهي تلعب دورا مهما في تخفيف عبء معاناة المياه في المنطقة وتشكل هذه الحفير معلما بارزا لكل الناس وهي إرث تاريخي تليد خلفه الشيخ أجراً وصدقةً جاريةً ، وفيها بركة وخير للناس ومنها طينة الحفير التي يتداوى بها الناس وهي إحدى كرامات الشيخ المكاشفي. و لا يقصد أحدا الشكينيبة إلا وكانت زيارة الحفير إحدى اهتماماته فهي مثار عجب ودهشة ، ولقد شهدنا فيها الكثير من العجائب و الغرائب. ومن المعالم والمنارات الواضحة في الشكينيبه القباب حيث أن بها ضريح الشيخ عبد الباقي المكاشفي رضي الله عنه ذاك الصرح الذي حوى الفخار و الأسرار و المعاني. وإلى جانبها تجد قبة الشيخ عبد الله وقبة الشيخ الطيب و قبة الشيخ الجيلي رضي الله عنهم وهي منارات يردها الزوار وينهلون من خيراتها ويشهدون أسرارها وهي توحي على صوفية البلدة و صلاح أهلها.


من أنا

السودان, الشكينيبه, Sudan
إذا أنتَ أكثرتَ الصلاةَ على الذي صل عليه الله ُ في الايات ِ وجـعلـتـَـها ِوردا ً عليكَ مُـحـتما ً لاحتْ عليكَ دلائلُ الخيرات(والله وبالله وتالله لا يجتمع حب إله وحب ذاك درهم في قلب ذي اسراري إن الدراهم مكتوب عليها أذا أحببت درهما أبغضك الجباري لاتنكرن لقولي في كتابتها تالله لايعرفها الا ذا أفكاري(الشيخ عبدالباقى المكاشفى)